مقالات الرأي
أخر الأخبار

*خطاب الكراهية القديم الجديد* *بقلم: بروفيسور عوض إبراهيم عوض*

*خطاب الكراهية القديم الجديد*

*بقلم: بروفيسور عوض إبراهيم عوض*
***
لا يزال الكثيرون من أهلنا الطيبين يستخدمون خطاب الكراهية في كتاباتهم وانتقاداتهم الأسفيرية. وكذلك المسؤولون الذين يدلون بأحاديثهم وتقاريرهم الصوتية أو المكتوبة عبر كل وسائل الإعلام. ولذلك ظلت كل التصريحات والمساجلات التي نتابعها يوماً بعد يوم تنضح بالسباب والتجريح والعبارات اللاذعة، بل والنابية في كثيرٍ من الأحيان. ومعظم الذين يعيشون في منفاهم الاختياري أو الإجباري لم يفتح الله عليهم بالعبارات الطيبة أو الحديث المنمق أو التعليقات المهذبة حينما يتناولون خصومهم من الناشطين في العمل السياسي. وكأنما كل من لم يكن على وفاق معهم في الروية أو الفكرة أو التوجه إنما هو شيطان أخرس يستدعي السباب والهجوم اللاذع عليه. ولعل الجميع قد لاحظوا هذا الأمر عبر القنوات الفضائية العربية التي تصر على استضافة الخصوم السودانيين كلما أحسسنا أن هناك بصيص أمل في انفراج شأن السودان. والضيوف المتخاصمون من حيث لا يشعرون يعيدون شأن الوطن إلى مربع واحد كلما أتيحت لهم فرصة الحديث عبر هذه الفضائيات التي بدأنا نحس وكأنها تريد تأجيج نيران الكراهية بين أبناء السودان. ومما نأسف له كل الأسف أن هذا النمط من المماحكات والتباغض الذي يرقى إلى مستوى الجناية في حق بعضنا ليس جديداً علينا وإنما ورثناه منذ غابر الأزمان. ويحضرني في هذا المقام ما تابعه أهلنا في تاريخ الختمية والأنصار القديم الذي واكبته في بدايات القرن الماضي كثير من الاتهامات والشائعات في سنوات الاستعمار البريطاني الأولى للسودان، وبالتحديد في عام 1898م. ولما كان الشيء بالشيء يذكر فإن عودة السيد علي الميرغني إلى الخرطوم بعد زوال دولة المهدية في تلك السنة التي احتل فيها الإنجليز السودان من خلال الحكم الثنائي بعد مقتل الخليفة عبد الله في أم دبيكرات بالقرب من مدينة أم روابة الكردفانية هاج الناس وماجو وكالو من السباب والاتهامات الجائرة والشائعات المغرضة ما يندى له الجبين خجلاً ضد شخصية السيد علي الميرغني الذي كان في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر. حيث قالوا إنه جاء للسودان غازياً مع الجيش المستعمر. وروج الكثيرون إلى أنه جاء لابساً زياً عسكرياً وعلى كتفه رتبة يوزباشى منحه إياها قائد الجيش المصري. وبالتالي فإنه يعتبر أحد الخونة الذين زحفوا من مصر في معية المستعمرين بقيادة كتشنر باشا الذي جاء لاحتلال السودان. وروجت كثير من الدوائر لذلك الزعم طوال فترة الاستعمار. ولكنَّ هل كان ذلك الحديث صحيحاً؟ لقد انبرى نفرٌ من المؤرخين الوطنيين لتكذيب تلك الاتهامات جملة وتفصيلا. ومنهم البروفيسور الراحل محمد إبراهيم أبو سليم المدير المؤسس لدار الوثائق القومية بالخرطوم، والذي أشار إلى أن السيد علي لم يدخل مع الجيش الغازي، ولم تكن له أي علاقةٍ به لا من قريبٍ ولا من بعيد، وإنما كان يعيش في مدينة كسلا بشرق السودان التي هي موطن والده طوال السنوات الأخيرة لحكم الخليفة عبد الله، ومنها جاء للخرطوم بعد نهاية دولة المهدية. وقد آثر البقاء في كسلا قبل ذلك نأياً بنفسه عن سياسة الخليفة الذي بطش برجالات الطرق الصوفية الذين ينتمي إليهم قادة وأبناء الطريقة الختمية. ودرءاً للمرارات التي ذاقها أهله بعد هدم الخليفة لقبة السيد الحسن في كسلا، فقد آثر السيد علي رغم صغر سنه أن يلزم دار أجداده في ذلك الربع النائي عن مدينة أم درمان مقر حكم الخليفة. ولذا فإنه لم يعد إلى أم درمان إلا بعد أن تم إعدام الخليفة الذي واكب أيلولة الدولة إلى قادة الحكم الثنائي بين الإنجليز والمصريين. وعلى العموم فقد كان مجرد ذلك الاتهام بدور السيد علي في إجهاض دولة المهدية كفيلا بترجيح كفة بريطانيا ومصر لصالحه ضد السيد عبد الرحمن المهدي الذي اعتبره الإنجليز الوريث الأساسي لدولة المهدية. ورغم أن السيد علي قد لعب دورا كبيراً في ساحة السياسة السودانية بعد تلك المرحلة إلا أن الصراع بينه وبين أنصار المهدية قد استفحل وأجج خطاب الكراهية بشكل كبير برز عبر المساجلات، والندوات الفكرية التي قادها الطرفان ضد بعضهما، ولم تسلم منها حتى منابر المساجد. ومرت السنوات الطويلة ونفوس السودانيين تغتلي بما فيها من الغبن بسبب سيطرة الإنجليز وفرض الولاء لهم بالقوة، مما أجج بدوره نيران الكراهية ضدهم، وبرز في رسائل الوطنيين السرية التي كانوا يتبادلونها فيما بينهم. وأصبح العسف وفرض الهيمنة والأوامر هي القاسم المشترك لكل أشكال العلاقات المتوترة التي ربطت بين الحكام والمحكومين. وقد استخدم الإنجليز نفوذهم لتقريب الختمية في محاولات متواصلة لتكريه الناس في دولة المهدية وأتباعها من الأنصار. حتى أنهم قد عملوا بكل جهدهم للترويج لعبارة: (قايل الدنيا مهدية) لوصف كل من كان فوضوياً وفاقداً للانضباط. وذلك نكاية في دولة المهدية التي أججوا خطاب الكراهية ضدها بشكل منظم من دواوين الحكومة. وعلى تلك الخلفية من الصراع احتضنوا قادة الصوفية وعلى رأسهم السيد علي الميرغني الذي رأوا فيه الرجل المناسب والبديل القوي لزعزعة الأنصار. ولذلك منحوه واحدا من أرفع الأوسمة البريطانية وهو نيشان (مايكل آند سينت جورج) عندما أوعز لورد كرومر للملكة فكتوريا أن تمنحه إياه، ففعلت. وبالطبع فقد تم منح هذا الوسام لاحقاً للسيد عبد الرحمن المهدي، والسيد الشريف يوسف الهندي بعد أن غلبت على السياسة روح الوئام والتكاتف والتسامح بعد سنوات التباغض الأولى في ظل الاستعمار البريطاني. وليت التاريخ يعود اليوم لتصفو نفوس أهلنا المتأججة، لأننا نحتاج لفتح صفحة جديدة نعيد فيها بناء هذا الوطن. وهي لا يمكن أن تتم إلا بالوئام، والتراحم، والتقدير، وتناسي الجراح، والصفح عن بعضنا البعض إذا كان ذلك في مقدورنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى