مقالات الرأي
أخر الأخبار

الخرطوم… مدينة لا تموت منبر_الكلمة بقلم: جلال الجاك أدول

الخرطوم… مدينة لا تموت

منبر_الكلمة

بقلم: جلال الجاك أدول

في لحظة صامتة، بدت الخرطوم كمن يفتح عينيه بعد حلم طويل وثقيل.
الناس يعودون، الشوارع تتنفس، والمستشفيات تستقبل المرضى من جديد. هذا ليس مجرد مشهد عادي… هذه معجزة مدينة اختبرتها النار، فرفضت أن تحترق.

طفتُ خلال الأيام الماضية بين أحياء أم درمان وبحري ووسط الخرطوم.
رأيت الخراب بعيني، وسمعت القصص الحزينة من أفواه أهلها. رجال فقدوا منازلهم، أمهات ينتظرن الغائبين، أطفال يحملون في عيونهم حكمة الكبار. لكن رغم كل الحزن، كانت ابتساماتهم أقوى من الألم، ونظرتهم نحو الغد أكثر إشراقًا مما توقعت.

في كل ركن من أركان ولاية الخرطوم ترى وجوهاً أرهقها التعب، لكنها ما تزال تبتسم. من أم درمان الصامدة، إلى بحري العصية، عاد الناس إلى بيوتهم بخطوات وئيدة، كأنهم يمسحون على جدرانها المثخنة بالجراح قائلين لا بأس… عدنا.

الأسواق بدأت ترتب رفوفها من جديد، الباعة عادوا لينادوا على بضاعتهم، والأطفال يلعبون وسط الشوارع، وكأنهم يعلنون أن الحياة هنا أكبر من الموت وأطول من زمن الخراب.
أما المستشفيات تلك الحصون البيضاء فقد فتحت أبوابها رغم الألم. الأطباء، الذين اختاروا البقاء حينما كان الجميع يرحل، أعادوا الحياة إلى قاعات الطوارئ. مستشفى الخرطوم، مستشفى بحري، مستشفى أم درمان… أسماء تحولت إلى رموز للصمود، حيث لا تزال يد الإنسان أقوى من آلة الحرب.

الخرطوم لا تحتاج إلى كثير من الكلام لتُفهم. يكفي أن تنظر إلى وجوه أهلها العائدين كي تعرف أن هذه المدينة قررت أن تنهض رغم كل شيء. الخرطوم لم تعد مجرد عاصمة سياسية، إنها اليوم عاصمة للإرادة والكرامة.

ومع كل تحدٍّ جديد، يزداد يقيني أن الخرطوم لا تعرف الاستسلام. هذه المدينة العظيمة، التي اشتد عليها الخناق ذات يوم، تكتب اليوم قصتها بنفسها، لا كضحية، بل كمنتصرة.

حين يسألونني يوماً كيف عادت الخرطوم؟ سأقول لهم ببساطة عادت كما يعرفها أبناؤها… قوية، صلبة، ومليئة بالحب.

واليوم، على الجميع أن يتكاتف. المواطنون يواصلون معركتهم من أجل الحياة، وعلى السلطات أن تسرع الخُطى لدعمهم، بإعادة الخدمات، وتأهيل المدارس والمستشفيات، وفتح الطرقات. الخرطوم لا تنتظر الشفقة، بل تستحق أن نقف معها بكل ما نملك من جهد وإيمان.
لأن من يعرف الخرطوم جيدًا… يعرف أن معركتها الحقيقية تبدأ الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى