مقالات الرأي
أخر الأخبار

منبر_الكلمة بقلم: جلال الجاك أدول كلام الأمل… ولكن!

منبر_الكلمة
بقلم: جلال الجاك أدول

كلام الأمل… ولكن!

اليوم أطلّ الدكتور كامل إدريس على السودانيين بخطاب من مدينة بورتسودان، معلنًا ميلاد ما أسماها حكومة الأمل المدنية. كان الخطاب طويلاً، مشبعًا بالقيم والمبادئ والنوايا الحسنة، وقد بدا وكأنه محاولة لإعادة تعريف العلاقة المهترئة بين الدولة والمواطن، بين السلطة والمجتمع، بل بين السياسة والضمير.

لم يكن الخطاب مجرد إعلان سياسي تقليدي أو استعراض أسماء ووزارات، بل جاء أقرب إلى وثيقة أدبية تحمل ملامح بيان تأسيسي. الدكتور إدريس لم يكتف بالكلمات العادية، بل لجأ إلى المفاهيم الكبرى؛ من الصدق والعدل، إلى الشفافية والتسامح. حدّد خمسة أسباب لأزمات السودان المتراكمة، أبرزها غياب الشخص المناسب في المكان المناسب، والفساد، وعدم قبول الآخر. وللأمانة، فقد كان هذا التشخيص متزنًا وواقعياً، وهو ما منحه تعاطفاً أولياً حتى من أكثر الناس تشككًا.

لكن المشكلة ليست في تشخيص الأزمة، فقد فعلها من سبقوه، إنما في القدرة على الخروج منها. وهنا تكمن العُقدة. فالرجل يعد بحكومة تكنوقراط غير حزبية، وهو ما يبدو للوهلة الأولى حلاً مثالياً في بلد أنهكته المحاصصات والانقلابات والمؤتمرات العقيمة. ولكن، هل يمكن حقًا أن تُدار دولة مثل السودان من خارج معادلات القوى على الأرض؟ كيف سيُقنع إدريس الحركات المسلحة، أو الكيانات السياسية الفاعلة، أو حتى لجان المقاومة بأن يسلّموا رقابهم لحكومة بلا جذور سياسية؟ التكنوقراط لا يملكون العصا السحرية، ولا الشرعية الثورية، ولا قدرة الحشد الشعبي، فهل سيكون مصيرهم كمصير حكومة حمدوك التي بدأت بالكفاءات وانتهت بالعجز والعزلة؟

المقترح الوزاري الذي عرضه إدريس يتكون من 22 وزارة، ومجالس وهيئات مستقلة. هذا التوزيع قد يبدو عصريًا على الورق، لكنه يطرح سؤالاً مشروعًا: هل نملك دولة تستطيع تحمّل هذا العبء الإداري؟ وهل الكفاءة وحدها تكفي في غياب الموارد والانضباط المؤسسي؟ السودان يحتاج ما هو أكثر من التكنوقراطية؛ يحتاج إرادة سياسية، ومصالحة تاريخية، وجرأة في اقتلاع جذور النظام العميق، لا فقط وجوهاً جديدة بمسميات مطوّلة.

ولعلّ اللافت، أن الخطاب الذي حمل عنوان الأمل لم يلقَ استجابة توازي ما حمله من نوايا. لم تحتفل به الشوارع، ولم تهتف له الحناجر، بل ساد صمت بارد يشبه الخيبة. الناس في السودان تعبوا من الخطابات. لقد سمعوا ما يكفي من الوعود، وقرأوا ما لا يُحصى من البيانات. هذا شعب لم يعد يطالب بالكثير: فقط يريد أن يشعر أن له قيمة، أن راتبه يكفي أسبوعًا، أن بضاعته لا تُنهب في الطريق، أن بيوت أهله لا تُقصف، وأن كرامته لا تُداس.

ولذلك، فإن التفاؤل بخطاب الدكتور إدريس، رغم جماله، لا يجب أن يتحوّل إلى غفلة. الكلمات لا تبني وطنًا وحدها، والنوايا لا تصلح بديلاً عن القوة التنظيمية والتفويض الشعبي. ومَن يطمح لإدارة دولة في لحظة مفصلية كهذه، لا يكفيه الطهر الأخلاقي، بل يحتاج إلى حنكة سياسية، وشجاعة في خوض المواجهات الحقيقية، لا الالتفاف حولها بلغة زاهية.

نعم، كلام الأمل كان جميلاً… ولكن! نحن في انتظار الأفعال، لا الأقوال. في انتظار حكومة لا تشبه البدايات الخائبة، ولا تنتهي كالتجارب المجهضة. في انتظار شيء يشبه الدولة التي نُؤمن بها، ونستحقها، ولم تأتنا بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى