مقالات الرأي
أخر الأخبار

منبر_الكلمة جلال الجاك أدول قبل أن نُصافح… لننظر إلى أيدينا

منبر_الكلمة

جلال الجاك أدول

قبل أن نُصافح… لننظر إلى أيدينا

في صباح باكر، كانت أم سودانية تفتح هاتفها المرتجف، تبحث في وجوه المفقودين عن ملامح ابنها الوحيد، المختفي منذ اندلعت نيران الحرب. لم تكن تعرف شيئًا عن خرائط المصالح الإقليمية، ولا عن طبيعة التحالفات التي تُعقد في الغرف المغلقة، لكنها كانت تدرك جيدًا أن هناك من سلّح وقتل وموّل، ثم دعا بعد كل هذا إلى صفحة جديدة.

استحضرت تلك الصورة وأنا أقرأ مقال الأستاذ عثمان ميرغني بعنوان الحوار مع الإمارات، الذي يدعو فيه السودان إلى تجاوز ما وصفه بـالأحداث العابرة. واستعادة العلاقات مع دولة الإمارات العربية المتحدة، بلا شروط أو مساءلة. وهي دعوة تستند، في ظاهرها، إلى منطق المصالح والعقلانية، لكنها تتجاهل عمق الجرح الذي لم يندمل، وحجم التورط الذي لا يمكن القفز فوقه بجملة دبلوماسية منمّقة.

منذ بدايات الصراع المسلح، تكررت تقارير دولية ومحلية تشير إلى دور محوري لعبته الإمارات في دعم احد أطراف الحرب في السودان ، وتحديدًا مليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو. الدعم لم يكن سياسيًا فقط، بل وُثق تمويله وتسليحه عبر شبكات إمداد مرت عبر أبوظبي. تقارير صحفية مثل تلك التي نشرتها رويترز والجارديان، إلى جانب شهادات من داخل مؤسسات سودانية، تشير بوضوح إلى هذا الدور. فكيف يُطالب السودان اليوم بفتح صفحة جديدة دون قراءة الصفحة السابقة؟ بل دون حتى الاعتراف بأنها كُتبت بالدم؟

تسطيح الأزمة على أنها مجرد فتور دبلوماسي قابل للترميم فيه تبسيط مخل للواقع. المسألة لم تكن يومًا سوء تفاهم سياسي بين بلدين، بل هي تورط مباشر في زعزعة استقرار دولة، وفي دعم طرف مسلح في حرب لا تزال تحصد الأرواح حتى لحظة كتابة هذا المقال.

الأستاذ عثمان أشار إلى أن الجالية السودانية في الإمارات تحظى بالاحترام والكرامة، وهذا صحيح. لكن هذه الجالية ليست مدخلاً للصمت، ولا ذريعة لتجاهل ما جرى، بل هي شريحة من هذا الشعب، تستحق أن تُصان كرامتها كما تُصان كرامة الوطن بأكمله. السودانيون في الإمارات ليسوا أوراق ضغط سياسية، بل مساهمون في اقتصاد تلك الدولة، تمامًا كما يُفترض أن تكون العلاقة بين الدول مبنية على الندية والاحترام المتبادل، لا على المجاملة مقابل الصمت.

ولأننا نؤمن بأهمية الحوار، لا نرفضه من حيث المبدأ. لكن الحوار الحقيقي لا يقوم على التجاهل، بل على المكاشفة. لا يقوم على طيّ الصفحات، بل على قراءتها بتأنٍ وشجاعة. إذا أرادت الإمارات أن تكون شريكًا في استقرار السودان، فعليها أن توضح موقفها من وحدة هذا البلد، وتكف يدها عن تمويل السلاح، وتفتح ملفات الذهب المهرّب والثروات المنهوبة.

كما أنه من الخطأ حصر التدخلات الخارجية في جهة واحدة، فهناك دول أخرى مثل كينيا و تشاد تحاول اللعب بأدوات ناعمة وخفية في الملف السوداني، من خلال التوسط لصالح أجندات بعينها، والتواصل مع قادة أطراف النزاع بطرق مريبة، مما يستوجب الحذر والمراجعة. لكن تبقى الحالة الإماراتية الأشد حضورًا وتأثيرًا، ومن ثم فإن تناولها يجب ألا يُعد استهدافًا، بل تشخيصًا دقيقًا.

من المؤسف أن تغيب عن الحكومة السودانية الحالية أي إشارة واضحة لموقفها من هذه العلاقة المتوترة، وكأن الصمت يمكن أن يعوّض الغياب عن المبادرة. الصمت، في السياسة، كثيرًا ما يُفهم كرضا أو عجز، وكلاهما خيار كارثي لشعب يُقتل أمام أعين العالم.

إننا لا ندعو إلى القطيعة، ولا نغلق الأبواب على المستقبل، ولكننا نرفض أن يُختزل الوطن في بيان مجاملات، أو أن يُدار ملف علاقاته الخارجية بنفس الأدوات التي أهدرت سيادته سابقًا. نريد علاقة تقوم على المكاشفة، والمسؤولية، والمحاسبة إذا لزم الأمر.

قبل أن نُصافح، يجب أن ننظر إلى أيدينا… هل هي نظيفة؟ وهل أيدي الآخرين كذلك؟ تلك هي البداية الحقيقية لأي حوار يحترم كرامة شعب، لا يساوم عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى