مقالات الرأي
أخر الأخبار

منبر_الكلمة جلال الجاك أدول أبيي… الأرض المعلقة بين قلبين وصراع مؤسساتها الصغيرة

منبر_الكلمة
جلال الجاك أدول
أبيي… الأرض المعلقة بين قلبين وصراع مؤسساتها الصغيرة

في بقعة ما بين شقوق الأرض ودموع السماء، حيث ترعى الأبقار على إيقاع أنين الرياح، وتقف النساء عند المصاطب يحدّقن بعيدًا في الأفق، هناك تنام أبيي.
مدينةٌ وُلِدَت وفي كفّها شهادة الانتماء إلى تاريخين، إلى وطنين، إلى حلمين متناقضين يتنازعانها كما يتنازع طفلان لعبة واحدة.

على هذه الأرض المرهقة، يظل إنسان دينكا أبيي يفتش عن سند، عن وثيقة تقول له أنت هنا، لك مكان، ولك حق أن تعيش كما يليق بابن هذه السهول التي صاغتها المواسم والصبر.
من رحم هذه الحاجة وُلد في عام 2016 المجلس الأعلى لتنسيق شؤون دينكا أبيي، حارسًا بلا سور ولا باب، يطرق أبواب المؤسسات الحكومية في السودان ليحل قضايا أبناء أبيي، وليخفف عنهم وطأة الغربة حتى في أرضهم.
لكنه مجلسٌ بلا ظهر حكومي، لا يتبع لرئاسة أو ولاية، لا ترفده ميزانية ولا تحتضنه مؤسسة. يعيش على شغف أعضائه وعلى قليل من العزيمة التي سرعان ما تنهشها خلافات داخلية ونقص في الموارد.
ومع ذلك عقد مؤتمره الثاني في مايو الماضي، ليقول للناس ما زلنا هنا نحاول أن نُنسّق، أن نكتب أسماءكم في دفاتر الحياة.

غير أن الإنجازات بقيت خجولة، والثقة ضئيلة، والهوة بين المجلس والناس واسعة. فلا شهادات المواطنة وحدها تكفي ولا حضور خافت يغني عن غياب الخطط الكبرى.

ولأن أبيي جرحٌ يضيق به صدر واحد، اجتمع نفر من أبنائها مطلع هذا العام 2025 وأطلقوا تنسيقية أبيي السودانية بقيادة جون زكريا، رافعين شعارًا بسيطًا في كلماته، صعبًا في إنجازه أن تظل أبيي ضمن السودان.
لكن الفكرة التي بدت في البداية مثل غيمة طرية، سرعان ما تلاشت في صراعات مبكرة، وانكمشت في مكتب تنفيذي لا نشاط له يُذكَر، فصار الناس يسألون ماذا بعد هذا التأسيس؟ أين البرامج؟ أين الخطاب الذي يجمع لا الذي يفرّق؟

وكان يمكن للمجلس الأعلى والتنسيقية أن يقسما الأرض نصفين بينهما؛ هذا يعالج شؤون المواطنة والإدارة، وتلك تدافع على المنصات السياسية والشعبية.
لكن ما حدث هو العكس تمامًا. لا لقاءات ولا مذكرات مشتركة ولا لجان تنسيق. بل صراعات علنية وخفية، ازدواجية مربكة، وتنازع لا يدفع ثمنه إلا المواطن البسيط الذي لا يعرف إلى من يتوجه بشكواه.

هكذا تظل أبيي، عالقة بين قلبين؛ قلب في الجنوب يزعم أبوّتها، وقلب في الشمال يتمسك بها. وفي داخلها أيضًا قلوب صغيرة تتنازعها مؤسسات لا تستطيع الاتفاق على أبسط قواعد الخدمة والكرامة.

لكن، ورغم هذا المشهد الذي يوجع الفؤاد، فإن الأمل لا يترك أهل أبيي.
لعل المجلس الأعلى والتنسيقية وكل الأجسام الأهلية يجدون في قلوبهم مكانًا أوسع يتسع لبعضهم، فيجلسون معًا، يطوون صراعاتهم، يكتبون ميثاقًا مشتركًا يحفظ لهذه الأرض حقها في الحياة والطمأنينة.
فلا حاجة لنا بمزيد من بيانات الاتهام، ولا بمقاعد تُملأ بالألقاب الفارغة. إنما الحاجة إلى خدمة الأرامل اللاتي ينتظرن أوراقًا تثبت لأبنائهن أنهم من هنا، إلى الشباب الذين يودون وظيفة، إلى الرعاة الذين يرغبون في بطاقة صحية لا أكثر.

ولتكن أبيي أولًا وآخرًا.
ولعل السماء التي أغدقت على هذه الأرض مطرًا، تمنحها يومًا قادة قلوبهم أوسع من الحقول، وعقولهم أصفى من ماء الكوول، وأيديهم أنظف من أوراق السياسة التي مزقت خارطتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى