
أ.الهادي السيد عثمان
من اسباب نكستنا ( دقستنا )
(الدقسة) في عاميتنا هي الغفلة وسوء التصرف، أو القرار الخاطئ المفضي إلى نتائج سيئة وضعيفة، ووضع الأمر في غير موضعه الصحيح، من حيث أردنا الجودة والكياسة. ولعل هناك تقارب بين الكلمة بهذا المعنى وبين معناها حين نقول : (أخدت ليك دقسة) إذا أردنا بها (الغفوة من النوم).بجامع الغفلة في كلٍّ.
وبعض الدقسات تقبل المراجعة والإصلاح والتصحيح، قبل أن تعطي نتائجها، وبعضها لا يقبل التلافي البتة، بل ربما يكون في إصلاحها وتصحيحها خراب أوسع، وخواتيم أشنع، كما يقول المثل الجهير (جا يكحلها عماها).
والمتأمل في حياتنا السياسية عامة؛ طوال تاريخنا بعد الاستقلال؛ يُعييه الإحصاء، وتملأ جنبيه الحسرة مما يجد من الدقسات العظيمات، التي أخرجت هذا البلد عن جادة النهوض والبناء الذي تنشده كل أمة حين تقاتل وتجاهد من أجل الخلاص وكسر القيود المكبلة لها، وتنشد الحرية وانتزاع الاستقلال لإدارة بلادهم بأنفسهم، وذلك من أخص الحقوق وأنفسِها، لا سيما إذا كان المستعمر الغاصب يحكم بالحديد والنار والقهر، ويستأثر بخيرات البلد دون أهله الأصليين، ويُمعن في حرمانهم من أبسط حقوقهم، ولا يؤخذ على أهل بلد أو تجريمهم إن اتخذوا هذا السبيل؛ لأن الفطرة السليمة تأبى الاعتداء والتغول واغتصاب الأوطان، وربما كان الاستعمار خير لهم وأرحم، إذا عمل على تأسيس مستعمراته وأقام فيها ما يرفع شعوبها إلى حياة أفضل، وإشراكهم في الإدارة والتأسيس!!
والدقسة الكبرى تتمثل في اختيار من يتولى المناصب الإدارية والتنفيذية؛ سواء تلك التي تأتي عن طريق الطرح العام بالانتخابات، كمجلس الشعب، و رئاسة الجمهورية (قمة الهرم ورأس الأمر)، أو الوزراء الذين يعينهم رئيس الوزراء، أو موظفي الخدمة المدنية،
إنها الدقسة المُنكِسة التي أخرت أكثر مما تقدم، وأفسدت أكثر مما تصلح، وعطلت أكثر مما تنتج، لأنها جاءت من وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وعكسهما صحيح، وذلك لأن الاختيار لم يكن مبنياً على أسس سليمة، ولا منهج أمين، اختيار لم ينظر فيه لتأهيل أكاديمي أو خبرات أو نزاهة أو أمانة أو كفاءة أو اقتدار، بل هو اختيار يتم بمعاييرَ من وضع الحزب أو القبيلة أو الطائفة كالقرابة، أو المجاملة، أو المصلحة المرتقبة، أو الرشوة حتى، ليس بالضرورة أن تكون رشوة مادية.
فعلى المستوى الشعبي و الجماهيري؛ نجد أن الناخب أحد ثلاثة، إما جاهلٌ أو تابعٌ منقاد، غير مستقل في رأيه، أو هو ممن يخضع لرأي الطائفة التي تحرك حوارييها بالإشارة.
وعلى مستوى الخدمة المدنية فإن الموظف المعين من قبل الوزير أو مدراء المؤسسات القومية، ورؤساء الأقسام التنفيذية والإدارية؛ إنما كان تعيينه بمعيار المحسوبية لا على الكفاءة، كيف لا والوزارة أو المؤسسة قد تحولت إلى قطاع خاص وعزبة خالصة للوزير من دون الناس؛ يديرها بمنهجية (إنما أوتيته على علم عندي).
فإذا تولى الوزير وزاره، والمدير إدارته، واختال اختيال الطاووس، نفث في روع الموظفين والمنسوبين لديه أنه المنقذ والمدير الكفء الذي لا يبارى ولا ينافس، ثم بدأ بعزل وفصل، وإبعاد من لا يطيق تفوقهم أو نجاحهم أو أمانتهم، أو حس بأنهم يقفون منه موقف الضد، ومن جهة أخرى خفض جناحه وقرّب، ورفّع من ارتاحت نفسه لهم، أو رأى في معاصمهم أكفّاً عراضاً تجيد التصفيق والتطبيل، ويمكن أن يتخذ منهم عيوناً له، وحائط صد لكل معتد أثيم.
السيادة والمناصب عندنا – يا سادة – إما حق موروث عن الآباء، و إما محاصصة بين الأحزاب، أو تُشترى بصنيعة الجمايل أوتُستحق بالولاء.
ومن المتفق عليه؛ أن بلادا كثيرة جدت السعي ووصلت مكانا رفيعا بين الأمم بحسن اختيارها لرؤسائها، ومن ثم اختار الرئيس معاونيه من الوزراء والموظفين مثلما كان يختار الفاروق عمّاله وولاته، وهم لا يعرفون عن الفاروق ما نعرفه، اختاروا رجالاً لم يستعينوا فيه ذكاء اصطناعي ولا ذُكروا في موسوعة غنيس للتفوق والقدرات، وإنما عرفوا بوطنيتهم وحسن تدبيرهم، وتراكم خبراتهم وصدق لهجتهم. أما نحن فما أفلحنا إلا بالتغني بماضينا واجترار تاريخ أجدادنا، وتعداد مآثرنا وفضائلنا. وكأننا مخلوقون من غير طينة آدم، وأن معادننا فوق كل معدن.
لقد مَردْنا على الاعتزاز بما سبقنا فيه غيرنا، وللحقيقة وللتاريخ أننا لم نسبق أحداً في شيء؛ بل وجدنا كل الذي نتغنى به من صنع الاستعمار ومنجزاته وفضائله علينا، وما فعلنا من شيء جديد، بل لم نستطع الحفاظ على ما وجدناه أو تطويره، وها نحن نحتفل بعيدنا السبعين للاستقلال أروني ماذا أنجزنا وما العجيبة الثامنة لعجائب الدنيا قد انفردنا بها؟!! لا نرى تفوقاً ولا نهضة ولا رخاء ولا مجداً!! وانثنينا نردد على مسامع العالم أننا كنا وكنا، واستصغرنا غيرنا وعيرناه وسفهنا تاريخه، وما هو عليه الآن من تقدم ورغد، يفضح حالنا ويكشف عجزنا، ويؤكد بجلاء حقيقة المقولة الشائعة بين بني جلدتنا من أن (الزول كسول).
هذه الدول التي لحقت بنا وتقدمتنا لم تمتلك عصا موسى، ولم تصل إلى ما وصلت إليه من تمكين ومنعة ورغد بعقول بنيها أو قدراتهم وإبداعاتهم ، وإنما بأيدي من لفظته بلاده من المتعلمين والمؤهلين، الذين لم تستوعبهم ولم يجدوا من حكوماتها المكان اللائق والمناسب للاستفادة منهم ومن تأهيلهم، ليس لضيق في الرزق ولا شحاً في ميادين العمل والبناء؛ ولكن لسوء التخطيط واستئثاراًِ للفرص وقصرها على ذوي القربى والمصالح والغرض، فهاجرت العقول واغتربت القدرات والمهارات، وكانت آليات ومعاول لبناء الدول التي استقبلتهم ووجدوا فيها ما يبغون، وبوأتهم مناصب رفيعة، وعرفت كيف تستخدمهم، وما زالت، حتى إذا عتت هذه الدول و استعلت علينا، وتطلعت إلى مواضع النفوذ، ورنت ببصيرة الحادب على مصائر شعوبهم، وطمعت في ما عندنا؛ عقدنا حاجب الدهشة وأسمعناهم المواويل المعهودة. نحن من بنينا بلادكم، نحن من علمناكم، نحن من أعطيناكم. َ..
وما كان لهم – هم وغيرهم ممن تحلبّ ريقهم – أن يطمعوا في ما عندنا، ويجمعوا أمرهم ويخططوا ويسخروا كل ما يستطيعون لتذويب هويتنا وتهجيرنا، إلا بسبب ما رأوه من خطل سياستنا، وانصراف ساستنا وحكامنا عن هذه الثروات والموارد – في باطن الأرض وخارجها – التي حبانا بها الله عز وجل، وتركها للقريب والبعيد ينهب منها كيف يشاء، سواء بعلم حكوماتنا المتعاقبة أو بغير علم ، الأمر الذي دفع شياطين الغرب أن يتصوروا أن السودانيين لا يستحقون أن تكون لهم هذه الكنوز ، وينبغي أن تؤول إلينا، وتقاسموا بينهم أن يقسم السودان إلى دول ، حتى يسهل نهب هذه الثروات، التي لو توافر لها من يستفيد منها و يحسن استغلالها واستثمارها بأيدي أبنائها لجعلت هذا البلد من عظائم البلاد وكبرياتها، وأصبح لها نفوذها.
فهيا بنا إخوة الوطن أن نحسن اختيار من يحكمنا ويتولى امرنا سواء كان للدولة او لموسسة او لمدرسة- بعد استخارة ورجاء من الله أن يوفقنا في اختيار من يخدم بلده بتجرد ووعي دون استكبار ولا من.
وبعد؛ فها نحن أمام مرحلة جديدة لتصحيح ما فات، وتدارك ما فرطنا فيه من أمرنا، ولنحذر الدقسات التي كانت نتائجها مانحن فيه من عذاب.
ونتمنى أن يكون اختيار دكتور كامل إدريس لرئاسة الوزارة وفقاً، وأن يكون فيه أولى خطوات النجاء، ولا نشك أنه اختيار جاء بعد فترة طويلة من الصبر والتأني والتمحيص، فصادف الاختيار أهله، وأصاب السهم رميته، ولا يختلف اثنان في أنه مؤهل كفاية أكاديميا، وللرجل خبرة طويلة في تقلد المناصب المرموقة، إلا أنها كانت بعيدة عن ميدان السياسة والحاكمية وشؤون التنفيذ، وعن المؤسسات ذات الصلة، والرجل لم يألف صالونات الدبلوماسية والعلاقات الدولية، وبعيد عن التعامل مع تقلبات المزاج السياسي للأحزاب ، ومطبات التداخلات الوزارية، ولن يسلم، ولو كان مبرأً من كل عيب؛ من ألسنة وأقلام أعداء النجاح، الذين يتربصون بكل فعالية ليس لهم فيها يد أو لم يستشاروا فيها، ولن يكون لهم فيها نصيب، ولا تحقق أجندتهم.
نتمنى أن يكف هؤلاء ويتركوا الرجل حتى يجد المناخ المناسب لمواجهة التحديات التي اختير لها، في هذه الظروف البالغة التعقيد، وحقيقة تعد شجاعة يحسد عليها أن يقبل مثل هذا التكليف، فما هو مناط به لينوء به (كونسولتو) من الخبراء الأفذاذ، ولكن الله معه، فدعوه وادعوا له بالتوفيق والإرشاد في توجهاته.
وصدق من قال
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبني وغيرك يهدم.