
منبر_الكلمة
جلال الجاك أدول
تضامن ناعم.. وموت خشن في الفاشر وكادوقلي
في بلد تتزاحم فيه الشعارات، ويتنازع فيه الناس على المواقف الخارجية أكثر مما يتنازعون على حياة الداخل، تبدو المفارقة في أقسى صورها. بينما تتفاعل شوارع السودان مع مأساة غزة عبر الوقفات، والتظاهرات، والدعوات، تتآكل أطراف هذا البلد بصمت. في الفاشر وكادوقلي، لا مظاهرات، ولا مناشدات، ولا حتى همهمة تضامن تليق بحجم الفاجعة. فقط موت خشن، وجوع كافر، وصمت خانق.
في الفاشر، المدينة التي كانت يوماً عاصمة للثقافة، بات المواطنون يتناولون الأمباز بقايا تصنيع زيوت الفول التي كانت تُرمى للبهائم ليس بدافع الفقر فقط، بل لأن البدائل انعدمت تمامًا. الأسواق نُهبت، المستشفيات دمّرت، وأصوات الرصاص لا تتوقف.
والسبب واضح وصريح: مليشيات الدعم السريع، التي تحاصر المدينة وتنهبها وتروّع أهلها، تمارس سياسة الأرض المحروقة بلا وازع، وتمنع وصول الغذاء والدواء، وتستهدف المدنيين بعنفٍ منفلتٍ من كل قيد.
أما في كادوقلي، فإن أوراق الأشجار تحوّلت إلى وجبات اضطرارية بعدما انقطعت الإمدادات، وتحوّلت الجبال إلى ملاجئ، والبيوت إلى مقابر. الهجوم المتكرر على محيط المدينة من قبل قوات الحركة الشعبية شمال، واستمرار حالة الفوضى الأمنية، تسببا في كارثة إنسانية مركبة. ومع ذلك، لا حديث في الإعلام، ولا وقفات في العاصمة، ولا نعي في المنصات. إنها مجاعة بلا ضجيج، ونكبة لا تصلح للترويج العاطفي .
ليس القصد هنا إدانة من تضامنوا مع غزة فغزة جرحنا أيضًا لكن كيف نُصدّق أن من بكى أطفال فلسطين تجاهل أطفال الفاشر؟ كيف نفهم أن من دعا لغزة في المساجد لم يدعُ لأم ترضع طفلها بين الحفر في كادوقلي؟ هل لأن الصور القادمة من هناك أكثر جودة ؟ أم لأن الموت السوداني صار روتينًا لا يثير الدهشة؟
الوجع الحقيقي أن هذا التجاهل ليس دوليًا فقط، بل سودانيًا أيضًا. فبعضنا يجيد لبس عباءة الوعي متى ما كان الترند خارجيًا، ويصمت عندما يشتعل الوطن من خاصرته. بعضنا يتظاهر من أجل قضايا بعيدة، ولا يملك الشجاعة لكتابة منشور واحد عن مجازر تحدث في بيته الخلفي.
لكننا لا نعمّم. فهناك من لا يزال ضميره حيًا، من يُغيث، وينشر، ويعمل بصمت في الميدان أو في الظل. هؤلاء قلة، لكنهم بصيص الأمل في ليل أخلاقي طويل.
الفاشر وكادوقلي لا تطلبان أكثر من أن نراهم، أن نتذكّر أن لهم حقًا في الحياة، وفي الوجع، وفي التضامن. ليس المطلوب منافسة غزة في الوجع، بل منافسة أنفسنا في الإنسانية.
ففي الوقت الذي نُقدّم فيه تضامنًا ناعمًا على شاشات الهواتف، هناك موت خشن تزرعه مليشيات الدعم السريع في دارفور، وتتغذى عليه مأساة الهامش المنسي.
ولا نطلب ترف التضامن.. فقط قليلًا من الخجل.