
منبر_الكلمة
جلال الجاك أدول
صوت الشعوب… من سواكن إلى أنقرة
بدأ العد التنازلي لمبادرة شكرًا تركيا.. شكرًا أردوغان، والتي تطلقها الرابطة الشعبية – رابطة الشعوب يوم السبت 9 أغسطس 2025، في جزيرة سواكن، المدينة ذات الأثر العثماني الضارب في عمق التاريخ. مبادرة لا تستند إلى خطاب رسمي أو أجندة حكومية، بل تنبع من الضمير الجمعي، من ذاكرة الشعوب التي لا تُصاب بفقدان جزئي حين يتعلق الأمر بالعطاء وقت الضيق.
رابطة الشعوب كيان مجتمعي تأسس خلال السنوات الأخيرة، وتضم ناشطين ومواطنين من مختلف الأقاليم، ممن يؤمنون بأن العلاقات بين الدول لا تُبنى فقط عبر القنوات الدبلوماسية، بل عبر المشاعر الإنسانية والاعتراف بالجميل حين يحين أوانه.
ليس اختيار سواكن محض مصادفة. إنها المدينة التي حملت عبر قرون معاني التواصل بين إفريقيا والعالم الإسلامي، وكانت منذ القرن السادس عشر مركزًا عثمانيًا مهمًا، ومنفذًا بحريًا رئيسًا للدولة العثمانية في البحر الأحمر. وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، أُقيمت فيها مبانٍ إدارية ومساجد ومدارس، تركت جميعها بصمتها المعمارية والروحية على المكان. لقد مثّلت سواكن حلقة وصل بين إسطنبول والخرطوم، كما مثّلت في مخيال السودانيين بوابة مشرّفة نحو العالم الأوسع.
وحين عادت تركيا الحديثة إلى سواكن قبل نحو عقد من الزمان، بمشروعات ترميم وبنية تحتية، وبتعاون ثقافي وإنساني، رآها البعض عودة رمزية، وآخرون ربطوها بمصالح استراتيجية. لكن كثيرًا من السودانيين البعيدين عن لغو التحليلات الجيوسياسية رأوا فيها امتدادًا طبيعيًا لتاريخ طويل من التفاعل، حيث تلتقي الذاكرة بالمصلحة، ويصبح الحنين مدخلًا للتعاون لا أداةً للهيمنة.
ما تُقدّمه رابطة الشعوب في هذه المبادرة هو شكرٌ يتجاوز المجاملة. إنه موقف من مواقف الضمير. فعندما غابت بعض القوى الكبرى عن مشهد الكوارث الطبيعية في السودان، كانت تركيا حاضرة. وحين انهارت الخدمات الصحية في مناطق عدة، كانت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) من أوائل المستجيبين. ومن خلال مؤسسات كالهلال الأحمر التركي، شاركت أنقرة في تقديم الدعم المباشر للمتضررين من السيول والفيضانات، فضلًا عن مساهماتها في مشروعات تنموية مستدامة في مجالات الصحة والتعليم والمياه.
ليس الشكر هنا إذًا مبنيًا على خطاب عاطفي، بل على تجربة معاشَة. تجربة لامست الواقع، وامتدت إلى المناطق الطرفية حيث تعجز مؤسسات الدولة المركزية عن الوصول، وأينما كان الناس في أمسّ الحاجة.
في زمن الفوضى والتدخلات العابرة للحدود، يصبح فعل الامتنان نفسه موقفًا سياسيًا ذكيًا. ليس بمعنى التبعية، بل بمعنى الاعتراف المتبادل. فحين تبادر الشعوب بتقديم الشكر، فإنها تؤكد استقلالها الأخلاقي، وتعيد تعريف العلاقة مع “الآخر” على أساس الكرامة والتكافؤ.
وإن ذُكر اسم الرئيس رجب طيب أردوغان في هذه المبادرة، فهو يُذكر لا بوصفه زعيمًا لدولة فحسب، بل رمزًا لشخصية تركية حاضرة بفعالية في ملفات الإغاثة، والتنمية، والدفاع عن القضايا الإنسانية، ومنها ما يخص إفريقيا عمومًا، والسودان خصوصًا.
ربما الأهم في هذا السياق، هو التحوّل من الدبلوماسية الرسمية إلى الدبلوماسية الشعبية. فالمبادرة لا تتبع وزارة خارجية، ولا ترفع لافتة حزبية. إنها وُلدت في قلوب الناس، ونمت في الوعي الجمعي، وتحركها رابطة تؤمن بأن الشعوب قادرة على إرسال رسائلها بصيغتها الحرة والمباشرة.
يقول أحد منسقي الفعالية في حديث سريع:
لم نرد أن نكتب بيانًا فقط، أردنا أن نقول شكرًا بعيوننا وأقدامنا، على أرض سواكن، حيث التاريخ ما زال يتكلم.
هل تغيّر هذه المبادرة شيئًا؟ ربما لا تغيّر موازين القوى، لكنها تغيّر اللغة. تغيّر السردية. وهي بذلك تسجّل نقطة لصالح الذاكرة، ولصالح الشعب الذي ما زال قادرًا على التمييز بين من مد له يده وقت الحاجة، ومن أدار له ظهره.
في التاسع من أغسطس، سيكون الموعد في سواكن. جزيرة تحكي، وحشود تستمع. وبين صوت الماضي وهمس الحاضر، يرتفع نداء ممتن:
شكرًا تركيا… شكرًا أردوغان.
لكن السؤال الأهم الذي يظل مفتوحًا بعد كل هذا:
هل تكون سواكن بداية لمرحلة جديدة من الامتنان السياسي الذكي؟
وهل تعيد الشعوب ضبط إيقاع علاقاتها الخارجية وفق بوصلتها الأخلاقية، لا وفق مصالح الآخرين فقط؟