منبر_الكلمة جلال الجاك أدول التحريض جريمة… حين تتحوّل الكلمة إلى وقود للفتنة

منبر_الكلمة
جلال الجاك أدول
التحريض جريمة… حين تتحوّل الكلمة إلى وقود للفتنة
في بلد متعدد الأعراق، الكلمة قد تقتل… فانتبه لما تقول
في إحدى القرى النائية، لم يحتج الأمر لأكثر من 24 ساعة. تسجيل صوتي انتشر كالنار في الهشيم، لرجل مسن يحرّض أفراد قبيلته على الهجوم على القبيلة المجاورة. في اليوم التالي، سقط قتلى، أُحرقت منازل، وتشردت عائلات بريئة لا ناقة لها ولا جمل.
ما حدث هناك ليس استثناءً، بل تكرارًا صارخًا لمشهد مألوف في سودان اليوم؛ حيث تتجاوز الكلمات حدود الرأي لتصبح رصاصًا يُطلق على وحدة المجتمع وسلامه. فالتحريض ليس خلافًا سياسيًا ولا انفعالًا عابرًا، بل جريمة موصوفة ومُجرّمة، تستحق أقسى درجات الإدانة والمساءلة.
في بلد متعدد الأعراق والثقافات مثل السودان، تصبح الكلمة فتيلًا سريع الاشتعال. تغريدة على فيسبوك قادرة على إشعال حرب، ومقطع صوتي على واتساب كفيل بإسقاط حيّ بأكمله في أتون الفوضى. بعض المنابر الإعلامية والسياسية، وصفحات مأجورة على مواقع التواصل، لم تعد تكتفي بالتجييش، بل تمارس التحريض الممنهج بوقاحة ودم بارد.
وفقًا للقانون الجنائي السوداني لسنة 1991، فإن المادة (62) تُجرّم التحريض على ارتكاب جريمة وتعتبر المحرّض شريكًا أصيلاً فيها. أما المادة (69) فتعاقب على الإخلال بالسلام العام، وهو ما ينطبق تمامًا على التحريض الذي يؤدي إلى الشغب والعنف. دوليًا، ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 20) على حظر كل دعوة للكراهية أو العنف القائم على العرق أو الدين أو القومية.
وقد عرف العالم هذا النوع من التحريض في أبشع صوره، كما في رواندا عام 1994، حين قُتل أكثر من 800 ألف إنسان، ليس فقط بالسكاكين والبنادق، بل بالكلمات التي بثّتها إذاعة (ميل كولين) ، والتي حولت الجيران إلى قتلة. فالكلمة حين تُنفخ فيها الكراهية، لا تقل فتكًا عن الرصاص.
وفي (2023)، أفاد تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية أن التحريض على العنف في السودان عبر الإنترنت تضاعف بنسبة تقارب 160٪ مقارنة بعام 2021، معظمه على خلفية قبلية أو سياسية، وغالبًا ما يُستغل خلال التوترات أو النزاعات المحلية.
لكن السؤال المُلح:
كم مرة سمعنا تحريضًا واضحًا في مجموعة واتساب أو لايف على فيسبوك وسكتّنا؟
هل أصبحنا نرى في المُحرّض بطلًا، ونُبرّر أفعاله باسم رد الحقوق ؟
وهل بالصمت نشارك في الجريمة؟
المؤسف أن هذا الانحدار الأخلاقي بات أشد خطرًا من الجريمة نفسها. لأنه يهيّئ لها بيئة من القبول المجتمعي، ويحوّل الجاني إلى رمز يُصفق له بعض الجهلاء.
وهنا لا بد أن نؤكد المسؤولية لا تقع على القانون وحده. بل تمتد لتشمل:
الإعلام برفض استضافة الأصوات المحرضة أو تمرير خطاب الكراهية دون مساءلة.
المؤسسات التربوية عبر تضمين قيم التسامح وفضيلة الاختلاف في المناهج.
المجتمع المدني من خلال مبادرات رصد التحريض، وتنبيه الناس إلى مخاطره قبل أن يقع الضرر.
واقترح:
تأسيس وحدة وطنية مستقلة لرصد خطاب الكراهية على الإنترنت.
تفعيل نصوص القانون بعقوبات واضحة وسريعة.
تدريب الإعلاميين على التعامل المسؤول مع الأخبار ذات الطابع الحساس.
التحريض ليس رأيًا.
التحريض ليس حرية.
التحريض ليس اختلافًا.
إنه فتنة… وقودٌ للفناء.
فلنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُهدم بالقنابل فقط، بل بالكلمات أيضًا.
فراقبوا ما تقولون، وانتبهوا لمن تستمعون…
فالكلمة قد تكون آخر ما يسمعه من تُحب.