مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي البرهان يُهندس الملعب لمرحلة جديدة

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

البرهان يُهندس الملعب لمرحلة جديدة

قرارات اعادة تشكيل هيئة الاركان والترقية والإحالة التي أصدرها رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، أمس، قد تبدو إجراءً إداريًا روتينيًا في سجل المؤسسة العسكرية السودانية. لكن التوقيت والسياق يشيران إلى ما هو أبعد من مجرد ترتيبات تنظيمية، ربما إلى إعادة توزيع مراكز التأثير داخل جيش خرج لتوّه من أخطر مؤامرة في تاريخه، كانت تستهدف وجوده ووجود الدولة نفسها .

بين أسماء رُقّيت وأخرى أُحيلت للتقاعد، تتشكل ملامح مرحلة جديدة، لا تقتصر على إعادة ترتيب البيت الداخلي للقوات المسلحة، بل تمتد إلى علاقة الجيش بمؤسسات الدولة الأخرى، وربما إلى المشهد السياسي والأمني في البلاد بأسره. ومن المرجّح أن تشهد أجهزة الأمن والمخابرات والشرطة خطوات مشابهة، في ما يشبه إعادة هيكلة متكاملة للأجهزة النظامية كافة، بما ينسجم مع المتغيرات الحالية ويعيد تثبيت أركان الحكم.

من المعلوم أن القوات المسلحة السودانية لم تعد مجرد مؤسسة نظامية تؤدي واجبها الوطني ضمن تسلسل هرمي تقليدي، بل باتت منذ اندلاع حرب 15 أبريل 2023 في قلب المشهد السياسي، وبؤرة صراع داخلي وإقليمي ودولي معقد. ومع استمرار الحرب، أصبح من الضروري إعادة ضبط المشهد العسكري لضمان الاتساق والتماسك الداخلي، ومنع التكلّس الذي طال قيادات متقدمة بحكم الظرف الطارئ وطول أمد الحرب.

الاسماء الوازنة كقائد الحرس الرئاسي، وسلاح المدرعات، وقائد الأمن العسكري، وقائد التوجيه المعنوي وسلاح الطيران وآخرين هي بمثابة إعادة هندسة للمسرح العسكري بالكامل، وربما تفكيك لمراكز قوى نشأت أو تعاظمت خلال فترة الحرب. والأهم أنها تكشف عن نية صريحة لإعادة تموضع المؤسسة العسكرية بما يعكس رؤية قيادتها في المرحلة المقبلة .

كما جاء القرار المهم والحاسم بإخضاع جميع القوات المساندة لقانون القوات المسلحة ليضع حدًا لأي ازدواج في السيطرة أو الولاء، ويعزز من هيمنة المؤسسة العسكرية على بقية التشكيلات التي استجابت لنداء قائد الجيش أو انحازت خلال الحرب، لكنها لم تكن جميعها خاضعة لتراتب قيادي واضح. هذه الخطوة لا تُقرأ في بعدها القانوني فقط، بل هي إجراء استباقي لضمان وحدة القيادة وتحصين الجيش ضد أي انقسام محتمل.

لكن الأهم من كل ذلك أن هذه التحولات تأتي متزامنة مع تقارير دولية مسربة – من داخل الادارة الأمريكية – تشير إلى أن الجيش السوداني، في ظرف ثلاث سنوات ، سيكون أكبر قوة جوية وبرية في إفريقيا والشرق الأوسط. Associated Press كما ينبه إلى “المارد السوداني”، كما وصفه التقرير، الذي تدعمه روسيا، والصين، وإيران، وكوريا الشمالية، والذي قد يُخضع محيطه الإفريقي لمعادلة ردع جديدة.

في ضوء هذا، لا تبدو إجراءات البرهان مجرد ترتيبات داخلية؛ إنها هندسة دقيقة لمسرح القوة، تضع السودان على عتبة مرحلة جديدة من التوازن العسكري والسياسي، محليًا وإقليميًا ودوليًا. فالسودان اليوم لم يعد دولة منهكة تبحث عن مخرج من الفوضى، بل يبدو – على الأقل من زاوية التخطيط العسكري – أنه يؤسس لمرحلة ما بعد الحرب، أو كما يسميها التقرير الأمريكي: مرحلة “ظهور المارد السوداني”.

هذا التحول يحمل أبعاد تتجاوز التكتيك العسكري؛ إنه تحول في فلسفة الحكم والادارة ، حيث تعود الدولة لتتشكل من داخل جيشها، وتتخلص تدريجيًا من ثقل الفصائل والمليشيا والواجهات السياسية الضعيفة. البرهان يدرك – أكثر من أي وقت مضى – أن معركته الحقيقية لم تعد فقط مع مليشيا الدعم السريع ، بل مع تركيبة سياسية وعسكرية إقليمية ودولية، تحاول تفكيك الجيش السوداني وحرمانه من تماسكه وشرعيته ومصادر تسليحه.

وربما في هذا السياق أيضًا، نفهم ما يقال عن الصفقة الأخيرة مع باكستان لشراء مقاتلات وأنظمة رادار متقدمة ؛ فالسودان، في ظل هذه المعادلة ، يتجاوز الاعتماد على الأسواق التقليدية، وهو الآن ينفتح – وفق نهج واقعي براغماتي – على مراكز تصنيع عسكري بديلة، في باكستان وغيرها .

بحسب ما نراه من#وجه_الحقيقة فإن ما يحدث اليوم في الجيش السوداني ليس مجرد حركة كشوفات، أو ترتيبات داخلية، أو حتى تصحيح للمسار، إنها إعادة تصميم كاملة لهوية الجيش، وتراتبيته ، وشبكة علاقاته، وتوازنات النفوذ داخله. ومع كل ذلك، تبقى الرسالة الأوضح أن البرهان قد قرر هندسة الملعب العسكري والسياسي على نحو يجعل أي مفاجآت أو مغامرات غير محسوبة مستحيلة، ويعيد تأسيس الدولة من نقطة ارتكازها الصلبة القوات المسلحة السودانية.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 19 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى