مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي سردية حرب الكرامة والذاكرة الوطنية..!

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

سردية حرب الكرامة والذاكرة الوطنية..!

ما تزال آثار الحرب شاخصة في الوجدان السوداني، تُذكِّر الأجيال بأن تضحيات عظيمة قد بُذلت في سبيل الكرامة والسيادة. هذه التجربة القاسية طرحت سؤالًا وطنيًا مهماً : كيف نحافظ على ذاكرتنا الجمعية من التفتت والضياع، ونحوّلها إلى ركيزة لبناء مستقبل أكثر وحدة واستقرارًا؟

فالذاكرة الوطنية ليست مجرد سجل تاريخي أو نصوص تُدوّن في الكتب، بل هي حجر الأساس لهوية الدولة الحديثة، وعبرها يستمد المواطن إحساسه بالانتماء، ويتماسك المجتمع أمام الأزمات. وإذا غابت سردية موحّدة ، تحوّلت الذاكرة إلى ساحة متنازعة، تنتشر فيها روايات متضاربة تزيد الانقسامات وتضعف فرص الاستقرار والنهوض.

الواضح طبيعة حرب الكرامة خلّفت آثارًا عميقة في كل بيت سوداني، وباتت الحاجة ملحة لتكوين لجنة وطنية تضم علماء ومؤرخين ومثقفين، تتولى جمع الشهادات الحية وتوثيق الأحداث ورسم خريطة جامعة للتجربة السودانية. وجود هذه اللجنة سيحمي السردية من التحريف والتسيس، ويمنح الأجيال المقبلة مرجعًا أصيلًا يستلهمون منه العبرة والدروس.

لكن لا يمكن الاعتماد على قراءات الآخرين أو على روايات مشوشة تناقلتها الألسن. فالتاريخ السوداني، كما في تجربة الثورة المهدية، عانى من الطمس أو التشويه، مما أدى إلى غياب تأسيس واضح لفهم ما جرى آنذاك. هذا الدرس يحتم علينا أن تكون سرديتنا الراهنة شفافة، وشاملة، وصادقة بعيدًا عن الأجندات الضيقة، حتى لا تتكرر أخطاء الماضي.

إن تخليد الذاكرة الوطنية لا يتوقف عند حدود التوثيق، بل يجب أن يمتد ليصبح جزءًا حيًا من حياة الأجيال. تضمين السرديات الوطنية في المناهج التعليمية خطوة جوهرية لترسيخ الانتماء منذ المراحل الأولى، بحيث يتعرف الطلاب على معركة الكرامة وغيرها من المحطات الفاصلة بوصفها دروسًا حية تصنع وعي المستقبل.

كما أن للأدباء والشعراء والفنانين دورًا لا غنى عنه في صياغة ذاكرة نابضة بالحياة، تعكس تضحيات الشعب وتمنحها بعدًا إنسانيًا خالدًا. وتظل المراكز البحثية والجامعات حجر الزاوية في هذا المشروع، عبر إنتاج دراسات رصينة وأبحاث موثقة تسهم في تصحيح الصورة التاريخية ونشرها على نطاق واسع من الفضاء المهني والاكاديمي دون تحريف .

تجارب الشعوب من حولنا تؤكد أن الذاكرة الوطنية أداة سياسية وثقافية لبناء المستقبل. في مصر، غدت أسماء المدن والشوارع جسورًا يومية تربط المواطن بانتصارات بلده: “6 أكتوبر”، “العاشر من رمضان”، “التحرير”. هذه الرموز جعلت التاريخ حيًا في الفضاء العام والوجدان الوطني.

أما رواندا، فقدمت درسًا ملهمًا بعد مأساة الإبادة الجماعية عام 1994. هناك تم تبني سردية وطنية تعترف بالجرح وتحتفي بالعدالة والمصالحة، عبر مراكز تذكارية وبرامج تعليمية، مما أسهم في توحيد المجتمع ومنع تكرار المأساة..

هاتان التجربتان تبينان أن الذاكرة ليست مجرد استدعاء للماضي وحفظ للتاريخ، بل مشروع وطني لبناء الحاضر والمستقبل.

السودان اليوم أمام فرصة لصياغة سردية وطنية لمعركة الكرامة تعكس عمق التجربة وتؤكد وحدة المصير. ويمكن ترجمة ذلك عمليًا عبر: نقاط عدة منها : تشكيل لجنة وطنية بقرار رئاسي لجمع الشهادات وتوثيق الأحداث وتوحيد السرديات.

بجانب انشاء متحف ملحق بالقصر الجمهوري يوثق للمعركة الكرامة وابطالها الحقيقيون يستقبل الزوار من الرؤساء والقادة ليكتبوا مواقفهم وانطباعهم، بعيدا عن الخذلان والمواقف الرمادية.

كذلك إعادة تسمية الأماكن بأسماء المعارك والتضحيات الوطنية، وبناء نصب تذكارية تخلّد البطولات. بالإضافة الي إدماج السرديات في التعليم عبر المناهج والأنشطة المدرسية والجامعية. أيضًا استثمار الفنون والإعلام في إنتاج أعمال توثيقية وأدبية وفنية تلامس وجدان المجتمع. فتح باب المشاركة للمواطنين في مسابقات ومبادرات توثيقية تعزز الانتماء.

يجب أن نعلم أن الذاكرة الوطنية ليست مجرد عمل ثقافي؛ بل هي أداة سياسية تحمي المجتمع من إعادة إنتاج الانقسام. فهي التي تضمن أن تضحيات الأمس تتحول إلى دروس ملهمة، لا إلى صراعات متجددة.

وفي السودان، حيث الجراح لا تزال مفتوحة، تصبح الحاجة ماسة إلى ذاكرة حية وصادقة تحفظ تضحيات الجميع، وتضع أسس وعي وطني جديد يحمي الدولة من التمزق والارتهان. فكما لا تبنى دولة بلا مؤسسات، لا يمكن بناء وطن متماسك بلا ذاكرة وطنية جامعة.

بحسب #وجه_الحقيقة فإن معركة الكرامة صفحة فاصلة في تاريخ السودان، ويجب أن تُكتب بأيدينا لا بأقلام الآخرين. فالذاكرة الوطنية الصادقة هي الضمانة الحقيقية للعدل والسلام والأمل. من هنا تأتي مسؤولية المجلس السيادي و حكومة الأمل في تبني مشروع وطني عاجل لتوثيق الأحداث وتخليد التضحيات، حتى لا تطوي الأيام أهم لحظات تاريخنا، ويُترك مستقبلنا عرضة للتشويه والنسيان.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 21 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى