مقالات الرأي

وجه الحقيقة |إبراهيم شقلاوي حكومة الأمل يحيطها سوء الطالع وتقدير للانتقال

وجه الحقيقة |إبراهيم شقلاوي

حكومة الأمل يحيطها سوء الطالع وتقدير للانتقال

منذ تسلمه رئاسة الوزراء في الحكومة السودانية، يبدو أن الدكتور كامل إدريس يخوض معركة لا تقتصر على إدارة واقع هش داخلياً، بل تمتد إلى محاولات إعادة بناء علاقات السودان الخارجية، وتقديم صورة لحكومة انتقالية قادرة على استعادة ثقة الإقليم والعالم.

غير أن تلك المحاولات، بدلاً من أن تثمر، ما زالت تتعثر عند كل محطة، وسط شعور شعبي متزايد بأن الحكومة – وإن حملت صبغة الكفاءات الوطنية – إلا أنها تفتقر إلى البوصلة السياسية والقدرة على التقدير الاستراتيجي.

آخر تلك المحطات تجلّت في الزيارة التي قام بها إدريس إلى المملكة العربية السعودية، والتي كان يُنتظر أن تكون بداية انفراج دبلوماسي يفتح الباب أمام شراكات اقتصادية وسياسية كبرى، لا سيما في ظل تراجع حاد في مؤشرات الاستقرار الاقتصادي.

لكن الزيارة بدلاً من أن تحقق اختراقاً، أصبحت عنواناً لإخفاق سياسي وإداري، بعدما طغت وعكة صحية مفاجئة لرئيس الوزراء على المشهد، أدت إلى إلغاء اللقاءات المقررة مع كبار المسؤولين السعوديين، وتأجيل ما قيل إنه جدول أعمال طموح.

وإذا كان رئيس الوزراء يعاني من أية أعراض صحية أو مقدمات مرضية – كما أشير لاحقاً في بيان “سونا ” إلى أن الوعكة كانت نتيجة “إجهاد” – فإن المنطق السياسي والمهني كان يقتضي من طاقمه الاستشاري والفريق التنفيذي المحيط به أن يتخذ قرارات أكثر حكمة، تبدأ بتأجيل الزيارة أو إعادة جدولتها منذ البداية.

فالزيارة لم تكن إلى دولة محايدة أو صغيرة في التأثير، بل إلى المملكة العربية السعودية، بثقلها الجيوسياسي ودورها المحوري في الملف السوداني، سواء من بوابة الدعم الاقتصادي أو من خلال رعايتها لاتفاق جدة وبيانات “الرباعية” التي ربما باتت تشكل مرجعية لكثير من الفاعلين الدوليين في الشأن السوداني.

إن التقصير في هذا الجانب لا يُعد مجرد خطأ بروتوكولي، بل يعكس قصوراً استراتيجياً مقلقاً، خاصة في ظل توقيت حرج تمر به البلاد.

فإرسال رئيس حكومة إلى زيارة بهذا الحجم، دون التأكد من جاهزيته الصحية واللوجستية من ناحية الملفات المراد بحثها، يعكس استخفافاً غير مبرر بالرسائل التي ترسلها الدولة لمحيطها.

كما يفتح الباب أمام تأويلات خارج السياق الرسمي، وربما تتجرأ بعض المنصات أو الأصوات الإعلامية “المتفلتة”، كما يُطلق عليها محلياً، على نسج روايات قد تمس شخص رئيس الوزراء، أو تلمّح إلى أسباب غير صحية وراء مرضه المفاجئ، وهو ما قد يُسيء للعلاقات السودانية السعودية، التي لطالما اتسمت بالثقة المتبادله والرهان المشترك في الملفات الحساسة.

وما يعزز هذا القلق هو التوقيت المتزامن مع زيارة رسمية أخرى قام بها رئيس وزراء باكستان محمد شهباز شريف، والذي وقع مع القيادة السعودية اتفاقية دفاع مشترك وشارك في جدول أعمال منسق رفيع المستوى. مقارنة بسيطة بين الزيارتين تكفي لفهم حجم الفجوة في مستوى الترتيب والنتائج.

فبينما حضر شهباز شريف باتفاقيات واستقبال رسمي متكامل، وجد إدريس نفسه يعاني من غياب اللقاءات الأساسية، وسط لغط إعلامي كثيف وسيل من الإشاعات والتأويلات.

التخبط الذي رافق هذه الزيارة ليس معزولاً عن سياق أوسع من الإرباك الذي تعيشه حكومة الأمل، والذي ظهر في الزيارة السابقة إلى القاهرة، حيث تعرض إدريس لانتقادات مماثلة تتعلق بضعف جدول الأعمال، وعدم تحقيق اختراقات دبلوماسية ملموسة.

وفي كلتا الحالتين، يتكرر المشهد ذاته: رئيس وزراء يسافر بلا نتائج واضحة، يحيط به طاقم محدود الخبرة السياسية، والادارية ويتعامل مع الاستحقاقات الكبرى بعقلية وظيفية لا تليق بموقعه، ولا بطبيعة المرحلة.

هذا الأداء المتراخي لا يقتصر أثره على صورة الحكومة، بل يضر بشكل مباشر بالمصالح العليا للدولة السودانية. فالدبلوماسية، كما هي معروفة، ليست مجرد لقاءات أو بيانات، بل إدارة متقنة للتوازنات، وتقدير دقيق للتوقيتات، والتقاط ذكي للفرص.

وفي الوقت الذي تتسابق فيه القوى الإقليمية والدولية على تعزيز موطئ قدم لها في السودان، تبدو الحكومة الانتقالية وكأنها غير قادرة على اللحاق بهذا السباق، بل تتأخر عنه، وتفقد تدريجياً مصداقيتها في المحيط العربي والإفريقي.

وما يثير القلق أكثر هو أن هذا النمط من الأداء قد يعزز لدى بعض العواصم الإقليمية فكرة أن الحكومة السودانية لا تملك زمام المبادرة، وأنها مجرد إدارة انتقالية غير مستقرة، تخوض معركة البقاء اليومي دون أفق سياسي واضح.

وهذا، في حد ذاته، يضعف قدرة السودان على التفاوض، ويؤثر على مستقبل علاقاته الخارجية، خصوصاً في الملفات التي تتطلب شراكة استراتيجية، مثل إعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات، والتعاون الأمني والاقتصادي بجانب ماتتطلع له الدولة السودانية لموقع ريادي في ملف أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

في المحصلة فإن ما جرى خلال زيارة رئيس الوزراء إلى المملكة العربية السعودية ليس حدثاً عاديا كما صور البعض يمكن تجاوزه بتصريح رسمي أو وعد بزيارة لاحقة. بل هو تعبير دقيق عن أزمة عميقة في عقل الدولة، وفي أدوات إدارتها للمرحلة الانتقالية الذي يجب تداركه اليوم قبل الغد.

ولعل المأساة الحقيقية بحسب #وجه_الحقيقة تكمن في أن الحكومة التي علّق عليها السودانيون آمالهم للعبور إلى مرحلة السلام والتنمية، تبدو اليوم محاصرة بسوء تقدير، وسوء طالع، وطاقم غير قادر على فهم لحظة البلاد الحرجة.

وإذا استمر هذا النمط من الإخفاق، فإن البلاد لن تخسر فقط فرص الدعم الإقليمي والدولي، بل قد تفقد بوصلتها السياسية بالكامل في لحظة تحتاج فيها إلى أقصى درجات الكفاءة والمرونة وفرض هيبة الدولة وصناعة استرتيجيتها الاقليمية والدولية. وإن لم يُعالج هذا الخلل سريعاً، فإن الآمال المعلقة على هذا الانتقال السياسي ستتحول إلى خيبة جديدة، تضاف إلى سجل طويل من الفرص الضائعة في تاريخ السودان الحديث.
دمتم بخير وعافية.
السبت 20 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى