الأخبارمقالات الرأي

د. محمد عوض محمد متولي يكتب: الجنيه السوداني في مهب الأزمة: تشريح الانهيار وتحديات الخروج من دائرة الهشاشة

د. محمد عوض محمد متولي يكتب:
الجنيه السوداني في مهب الأزمة: تشريح الانهيار وتحديات الخروج من دائرة الهشاشة
.

​يواجه الاقتصاد السوداني أزمة بنيوية مركبة بلغت ذروتها مع اندلاع الحرب، مما دفع بالجنيه السوداني إلى حافة الانهيار النقدي. هذا التحليل يقدم تشريحاً عميقاً للأزمة، مشيراً إلى أن تدهور العملة ليس مجرد عرض جانبي للصراع، بل هو نتيجة لتشوهات هيكلية مزمنة تفاقمت بفعل “اقتصاد الحرب والظل”. تعود الأسباب الهيكلية إلى هيمنة “الاقتصاد الريعي الطفيلي” (المرض الهولندي الجديد) المعتمد على الذهب، وفقدان الجنيه لوظائفه الأساسية بسبب “الدولرة” والتضخم الجامح الناتج عن الهيمنة المالية الكاملة والتمويل النقدي للحرب.
​يرسم التحليل ملامح المستقبل عبر خطة إعادة تأسيس (Re-foundation) ترتكز على القيادة الزراعية والشمول المالي الرقمي وضرورة استعادة السيطرة على الذهب. وقد تم تقديم توصيات استراتيجية لخطة عمل عاجلة (خطة الـ 180 يوماً)، تتطلب الوقف الفوري والحاسم لطباعة النقود، وإصلاح نقدي جذري يتبعه “التعويم المُدار المُدعم” لتوحيد سعر الصرف. إن نجاح أي استقرار يتوقف على إدارة المخاطر الأمنية والمالية عبر الإجماع الاقتصادي الوطني المُلزم وآليات الاستجابة المزدوجة للرقابة والتمويل. الاستقرار النقدي هو في جوهره انعكاس لاستقرار الدولة.
الصدمة المزدوجة والهيكل الاقتصادي الآيل للسقوط
​يواجه الاقتصاد السوداني اليوم منعطفاً تاريخياً هو الأصعب في تاريخه الحديث، حيث تتضافر صدمة الحرب الداخلية مع هشاشة هيكلية مزمنة لتدفع بالبلاد إلى حافة الانهيار النقدي والاقتصادي الشامل. لم يكن تدهور قيمة الجنيه السوداني مجرد عرض جانبي للاشتباكات المسلحة، بل هو التعبير الأكثر وضوحاً عن فشل متراكم في إدارة الاقتصاد الكلي، وتشكيلة إنتاجية ريعية ضعيفة، وغياب لمؤسسات الدولة الفاعلة. لقد أدت الحرب إلى “تجميد” وتدمير فعلي لـ 70-80\% من النشاط الاقتصادي في العاصمة والولايات الرئيسية، ما سرّع من كشف العيوب الهيكلية العميقة التي كانت تتخفى وراء محاولات إنعاش خجولة.
​نهدف هنا إلى تقديم تحليل عميق وشامل لجذور الأزمة النقدية الحالية، متجاوزاً العوامل الظرفية إلى الأسباب الهيكلية الكامنة. سنسعى إلى فك تشكيلة “اقتصاد الحرب والظل” الذي نشأ عن النزاع، ثم نرسم ملامح المستقبل عبر تقديم رؤى استراتيجية ومنهجية واضحة، مدعومة بعشرة سيناريوهات محتملة للاستقرار. في الختام، سنقدم توصيات محددة لخطة عمل عاجلة (خطة الـ 180 يوماً) وكيفية التغلب على التحديات والمخاطر المتوقعة، لضمان تحويل الاقتصاد السوداني من دائرة الهشاشة إلى مسار التعافي والتنمية المستدامة.
المحور الأول: الأسباب الهيكلية والعميقة لتدهور العملة الوطنية
​إن تدهور قيمة الجنيه السوداني ليس نتاج نقص في السيولة، بل هو نتيجة مباشرة لاختلالات بنيوية مزمنة تفاقمت بفعل النزاع، ممثلة في “صدمة العرض الكلي” و “صدمة الثقة النقدية” في آن واحد.
​ 1. متلازمة “المرض الهولندي واقتصاد الريع المدمر (The Dutch Disease):
​اعتمد الاقتصاد على الموارد الطبيعية غير المعالجة (الذهب حالياً) كمصدر رئيسي للنقد الأجنبي. هذا الاعتماد خلق تشوهاً في سعر الصرف الحقيقي (Real Exchange Rate Misalignment)، حيث أدت تدفقات النقد الأجنبي من قطاع الذهب إلى إفراط في التقييم (Overvaluation) للجنيه بالنسبة للقطاعات المنتجة الحقيقية كالزراعة والصناعة. هذا أضعف القدرة التنافسية للصادرات وكرس العجز المزمن في الميزان التجاري، وزاد من حساسية العملة لتقلبات أسعار السلع الأولية.
2. أزمة السيادة النقدية وموت وظائف العملة (Dollarization and Loss of Monetary Functions):
​أدت الأزمات المتكررة والحرب إلى “دولرة” واسعة، حيث فقد الجنيه وظيفته كـ “مخزن للقيمة” (Loss of Store of Value) بسبب التضخم المفرط (Hyperinflation)، مما دفع الأفراد إلى “الهروب إلى الجودة” (Flight to Quality) والاحتفاظ بالدولار والذهب. هذا الشلل في وظائف العملة أدى إلى تقويض أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي.
​ 3. الهيمنة المالية والانهيار المؤسسي (Fiscal Dominance and Institutional Decay):
​انهيار البنية التحتية لمؤسسات الدولة أدى إلى توقف شبه كامل لـ الإيرادات السيادية (الضرائب والجمارك). الأطراف المتحاربة لجأت لـ التمويل النقدي للعجز الحكومي (Monetization of the Deficit) عبر طباعة النقود واستغلال الموارد (الذهب) خارج القنوات الرسمية. هذا زيادة عرض النقد بشكل انفجاري هو المسبب المباشر للتضخم الجامح وتآكل الجنيه، ويعكس السيطرة المالية على قرار البنك المركزي.
​ 4. هروب رؤوس الأموال ومخاطر العائد (Capital Flight and Risk Premium ):
​حالة عدم اليقين الأمني رفعت بشكل كبير “علاوة المخاطر السياسية” (Political Risk Premium)، مما أدى إلى “نزيف نقدي” حاد وهروب الأصول والاستثمارات بحثاً عن ملاذات آمنة، وزيادة الضغط على سعر الصرف في السوق الموازية.
المحور الثاني: فك تشكيلة الاقتصاد الحالي ورسم ملامح المستقبل
​لقد كشفت الأزمة عن تشكيلة اقتصادية هشة، يمكن وصفها بأنها “اقتصاد حرب مشوَّه” و “اقتصاد ظل مُتضخم”، مما يتطلب إعادة هيكلة جذرية.
​ 1. تشخيص تشكيلة الاقتصاد الحالي: “اقتصاد الحرب والظل”
​تتميز التشكيلة بـ تفتت السوق وانهيار الترابط القطاعي (Market Fragmentation)، حيث انفصلت المناطق اقتصادياً. كما ازدهر “اقتصاد الظل والنهب” (Shadow and Looting Economy) القائم على تجارة الذهب وتهريب السلع لتمويل أطراف النزاع. هذا أدى إلى تدمير رأس المال المادي والبشري (Destruction of Capital Stock) عبر هجرة الكفاءات وفقدان الأصول.
​ 2. الرؤية الاستراتيجية للتحول الاقتصادي :
​استراتيجية “التأسيس الزراعي أولاً”: يجب أن تكون الزراعة هي القطاع القائد (Leading Sector) لتوفير الأمن الغذائي وتوليد نقد أجنبي مستدام عبر التركيز على سلاسل القيمة القصيرة في مناطق الاستقرار.
​إعادة بناء “الثقة المؤسسية”: تمكين البنك المركزي من استعادة الاستقلالية الوظيفية وتطبيق آليات صارمة لإلزام شركات التعدين بتحويل عائداتها الدولارية عبر القنوات الرسمية (تفعيل رقابة الذهب).
​استراتيجية “الشمول المالي الرقمي”: استخدام التكنولوجيا المالية (FinTech) لتجاوز البنية التحتية المصرفية المدمرة، وتشجيع المعاملات غير النقدية لدمج التحويلات الخارجية في النظام الرسمي وإضعاف السوق الموازية.
المحور الثالث: الرؤى الاستراتيجية والسيناريوهات المستقبلية للاستقرار
​إن الخروج من دائرة الهشاشة يتطلب رؤية استراتيجية واضحة المعالم، تستند إلى آليات دعم إعادة الإعمار الاقتصادي واستعادة وظائف الدولة.
​السيناريوهات المستقبلية للاستقرار النقدي :
​سيناريو “قفزة الاستقرار المدعوم دولياً”: (الأكثر تفاؤلاً) تدخل دولي حاسم ودعم مالي ضخم وموجه (10-15 مليار دولار) يسمح بالتوحيد السريع لسعر الصرف وتراجع التضخم إلى مستويات مقبولة خلال عامين.
​سيناريو “السيادة الزراعية كقاطرة”: استغلال الميزة النسبية للزراعة لزيادة الصادرات، مما يوفر تدفقاً مستداماً للنقد الأجنبي ويدعم الجنيه بقيمة حقيقية مضافة (استقرار عضوي ومستدام).
​سيناريو “الشمول المالي عبر الرقمنة”: نجاح برنامج وطني لـ الشمول المالي عبر الهاتف المحمول في تجاوز الدمار، مما يضعف الطلب على النقد المادي ويسهل دمج التحويلات في النظام الرسمي.
​سيناريو “الاستقرار تحت مظلة الديون”: انتهاء النزاع دون تقدم في ملف الديون، واعتماد الحكومة على القروض التجارية أو الودائع الإقليمية، مما يحقق استقراراً اسمياً مؤقتاً وهشاً.
​سيناريو “اقتصاد الجيوب والإنفاق اللامركزي”: استمرار اللامركزية الأمنية والاقتصادية، مما يؤدي إلى استقرار محلي في جيوب محددة، لكنه يفشل في استعادة السيادة النقدية ويؤدي إلى تباينات في قيمة الجنيه بين المناطق.
​سيناريو “التعويم المدار المشروط”: التزام الحكومة بتنفيذ تعويم مُدار بالاتفاق مع صندوق النقد، بشرط استعادة السيطرة على الذهب وتحقيق انضباط مالي صارم.
​سيناريو “إعادة التأسيس البطيء والمعقد”: استمرار التوترات السياسية الداخلية وغياب الإجماع، مما يؤدي إلى استقرار نقدي بطيء جداً عبر عملية إعادة تمويل النقد (Remonetization)، مع استمرار التضخم عند مستويات مرتفعة.
​سيناريو “الانهيار التام واللجوء لعملة بديلة”: (الأكثر خطورة) فقدان الجنيه لوظيفة “وحدة الحساب”، واللجوء الواسع لعملات أجنبية والمقايضة السلعية (Barter Economy)، وفقدان كامل للسيادة النقدية.
​سيناريو “الهيمنة المالية الكاملة والديون المتراكمة”: انتهاء الصراع مع استمرار اعتماد الحكومة على التمويل بالعجز عبر البنك المركزي، مما يضمن استمرار التضخم الجامح (Hyperinflation) وانهيار قيمة الجنيه.
​سيناريو “اقتصاد اللاجئين والتحويلات”: تحول الاقتصاد للاعتماد بشكل كبير على المساعدات الإنسانية وتحويلات المغتربين، مما يخلق استقراراً جزئياً في أسعار الصرف لكنه يؤدي إلى تبعية اقتصادية عميقة وقتل الحافز للإنتاج المحلي.
توصيات استراتيجية للحكومة الانتقالية القادمة: خطة الـ 180 يوماً للاستقرار التأسيسي
​هذه التوصيات موجهة لخلق “صدمة ثقة إيجابية”.
عبر إجراءات حاسمة وموجهة:
​1. إعلان “حالة الطوارئ المالية العليا”: إصدار مرسوم فوري يحظر على وزارة المالية طلب أي تمويل مباشر من البنك المركزي، ووقف التمويل النقدي للعجز، مع تأسيس “هيئة رقابة عليا للإيرادات” لضمان الانضباط المالي.
​2. استعادة السيطرة على “ذهب الصراع”: إنشاء “صندوق سيادي للذهب والمعادن” يدار بشفافية لإلزام شركات التعدين بتحويل نسبة معتبرة من عائداتها الدولارية إلى البنك المركزي، وتحويل الذهب إلى احتياطي نقدي داعم للجنيه.
​3. التأسيس النقدي لـ “الجنيه الانتقالي”: البدء فوراً في التخطيط لـ إصلاح نقدي شامل (Currency Reform) يتضمن طرح عملة جديدة لكسر العلاقة مع التضخم الجامح واستعادة وظيفة العملة كـ مخزن للقيمة.
​4. “التعويم المُدار المُدعم” لتوحيد سعر الصرف: تطبيق سياسة التعويم المُدار المدعوم بالودائع الدولية وعائدات الذهب، مع تغذية سوق الصرف الرسمي بجرعات منتظمة لكسر احتكار السوق الموازية.
​5. دعم “الشمول المالي الرقمي” كحل للدمار: إطلاق برنامج وطني لـ المعاملات غير النقدية لدمج الأموال المكتنزة في النظام الرسمي وتقليل الطلب على العملة المادية.
​6. استراتيجية “الإحياء الزراعي كقاطرة للنمو”: توجيه 70\% من القروض الميسرة لتمويل مدخلات الإنتاج في “مناطق التعافي الاقتصادي المحمي” لزيادة الصادرات المنظمة.
​7. حشد “مؤتمر المانحين المشروط”: عقد مؤتمر دولي لـ تغطية الفجوة التمويلية (Financing Gap) وتأمين 10 مليار دولار كودائع ودعم مالي مشروط بالتزام الحكومة بالإصلاحات.
​8. إطلاق برنامج “عودة الكفاءات المغتربة”: مبادرة وطنية لجذب الكفاءات السودانية المغتربة عبر تقديم حوافز مغرية للاستفادة من خبراتهم في إعادة بناء المؤسسات المدمرة.
​تحليل التحديات وآليات الاستجابة لتخفيف المخاطر
​إن تنفيذ هذه الخطة يواجه تحديات هائلة تتطلب آليات استجابة متخصصة:
​تحديات ومخاطر التنفيذ:
​تتمثل أبرز التحديات في استدامة الهدنة وتفكيك “اقتصاد الحرب” ومقاومة المستفيدين، وأزمة “فقدان الذاكرة المؤسسية” وهجرة الكفاءات، وصعوبة إدارة عملية “الإصلاح النقدي” والتضخم المُكبوت، وشروط “التمويل المشروط” التي قد تعيق الدعم الخارجي، بالإضافة إلى ضغط الإنفاق الإغاثي الذي يتعارض مع الانضباط المالي.
​آليات تخفيف المخاطر والاستجابة:
​آلية “التحالف الأمني-المالي المشترك”: لتأمين مواقع الإنتاج الرئيسية وعزل القرار الاقتصادي عن الاضطراب الأمني.
​استراتيجية “الإجماع الاقتصادي الوطني المُلزم”: لفرض الالتزام على الأطراف الرئيسية بالإجراءات الاقتصادية غير القابلة للتفاوض، ومواجهة مقاومة القرار الموحد.
​آلية “التحقق المزدوج لتمويل العجز”: لإخضاع أي طلب تمويل حكومي لموافقة البنك المركزي ولجنة دولية استشارية متخصصة لضمان الانضباط المالي.
​برنامج “إطلاق العنان للتحويلات” المشروط: لتقديم سعر صرف تفضيلي للمغتربين الذين يحولون أموالهم عبر القنوات الرسمية الرقمية، مما يغذي السوق الرسمي بالنقد الأجنبي.
​”فريق التدخل السريع” لإعادة تأسيس البنك المركزي: لتسريع إعادة بناء الأنظمة الأساسية للبنك عبر مقاربة المؤسسة الهزيلة (Lean Institutional Approach) والاستعانة بالكفاءات الفنية.
​التعامل مع البعد الاجتماعي: عبر برامج حماية اجتماعية موجهة وبرامج عمل كثيفة في إعادة الإعمار لامتصاص البطالة وتخفيف تكلفة التكيف (Adjustment Cost) على المواطن، بالإضافة إلى استرداد الأصول المنهوبة (Asset Recovery) لتحقيق العدالة الاقتصادية.
الخاتمة
الاستقرار عملة غير نقدية.. نحو إعادة تأسيس الثقة والإنتاج
​لقد أثبت تحليلنا العميق أن الأزمة النقدية التي يمر بها السودان هي انعكاس مباشر لانهيار ثلاثي الأبعاد: انهيار في الهيكل الإنتاجي، وانهيار في الثقة النقدية، وانهيار في الضبط المالي والمؤسسي. إن تدهور قيمة الجنيه ليس إلا عرضاً لمرض اقتصادي أعمق.
​إن الطريق إلى استعادة قيمة الجنيه السوداني ليس عملية نقدية بحتة، بل هو مشروع وطني شامل يتطلب إرادة سياسية موحدة وإجراءات اقتصادية قاسية لكن ضرورية. تتركز الرؤية الاستراتيجية في ضرورة التحول الجذري من “اقتصاد المقاومة” المدفوع بالدين والنزاع إلى “اقتصاد التعافي” المدفوع بالإنتاج والشفافية.
​يكمن مفتاح النجاح في التنفيذ الصارم والمتزامن لـ “خطة الـ 180 يوماً”، والتي ترتكز على محورين لا يقبلان التنازل: الضبط المالي الكامل واستعادة الثقة النقدية. إن التحديات هائلة، لكن آليات الاستجابة المقترحة توفر خارطة طريق لتقليل المخاطر وبناء المرونة المؤسسية. الاستقرار النقدي هو في جوهره انعكاس لـ “الاستقرار المؤسسي” و”الأمن”. لن يرتفع الجنيه إلا بارتفاع مستوى الثقة والإنتاج في الدولة السودانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى