
منبر الكلمة
جلال الجاك أدول
ماذا بعد سقوط الفاشر؟
لم يكن سقوط مدينة الفاشر مجرد حدث عسكري عابر في غرب السودان، بل هو محطة فاصلة في معركة الوجود الوطني بين مشروع الدولة ومشروع الفوضى. فقد سقطت المدينة بعد عام ونيف من الحصار والهجمات الوحشية التي شنّتها مليشيا الدعم السريع وحلفاؤها، مستندين إلى دعم خارجي مكشوف بالسلاح والمال، بينما ظلت الفاشر تقاوم حتى الرمق الأخير بفضل تضحيات القوات المسلحة والمقاومة الشعبية والقوات المشتركة.
الفاشر ليست مدينة عادية، بل رمز للسيادة الوطنية وذاكرة لدارفور وتاريخها الطويل في مواجهة الغزو والهيمنة. وما حدث فيها لم يكن سقوطاً عسكرياً بقدر ما كان سقوطاً أخلاقياً لمليشيا لا تعرف معنى للوطن، حولت الحرب إلى تجارة، والمواطنين إلى أهداف، والمدن إلى غنائم. لقد دخلت الفاشر في سجل البطولة لا في سجل الهزيمة، لأنها قاومت في وجه آلة الدمار المدعومة من الخارج، بينما تخاذل العالم وصمت المجتمع الدولي عن واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في السودان الحديث.
سقوط الفاشر كشف أن الحرب في السودان لم تعد شأناً داخلياً فقط، بل صراعاً إقليمياً بأدوات سودانية. فالدعم السريع لم يكن ليستمر في حربه لو لم يتلقَّ تمويلاً وتسليحاً منظماً من بعض القوى الإقليمية التي تسعى لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في السودان، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أضحت متهمة بلعب دور خطير في تغذية الحرب وتمويل المليشيا عبر شبكات معقدة من الإمداد والتهريب والذهب. تلك الحقيقة لم تعد سراً، بل حديث المجتمع الدولي ووسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية.
لكن رغم كل ذلك، ظل الجيش صامداً في الميدان، يقاتل بثبات وشرف دفاعاً عن وحدة السودان وسيادته، بينما أثبتت المقاومة الشعبية والقوات المشتركة في دارفور أن الانتماء للوطن لا يُقاس بالعدة والعتاد، بل بالإرادة والإيمان بعدالة القضية. لقد صمدت الفاشر بدماء أبنائها، وسقطت لتنهض من جديد رمزاً للتحدي والإصرار، ولتؤكد أن السودان ما زال حياً في نفوس من يقاتلون من أجل بقائه.
الذين يظنون أن سقوط الفاشر هو نهاية الحرب مخطئون. فالمدينة التي دُمّرت ستعود لتكون بداية وعي جديد، وشرارة لميلاد وطن أقوى وأكثر وعياً بعد أن تكشفت أمام الناس حقيقة الحرب ومن يقف وراءها. الفاشر اليوم ليست مجرد جغرافيا محتلة، بل فكرة تقاوم، وروح تقف خلفها الأمة بكل شرفائها من الجنود والمدنيين.
ما بعد الفاشر مرحلة وعي واصطفاف، وليست مرحلة انكسار. ستعيد القوات المسلحة ترتيب صفوفها، وستواصل المقاومة الشعبية نضالها حتى استرداد كل شبر من أرض السودان. وحين تكتب صفحات هذه الحرب في النهاية، سيذكر التاريخ أن الفاشر كانت لحظة انكسار شكلية في ظاهرها، لكنها في جوهرها كانت لحظة ولادة وطن جديد يعرف عدوه الحقيقي، ويستعيد ثقته بجيشه، ويطوي صفحة التدخلات الأجنبية والمال السياسي المدمر.
الفاشر لم تسقط، بل كشفت كل الأوراق. سقطت الأقنعة، وظهر الخيط الرفيع بين من يقاتل دفاعاً عن السودان، ومن يبيعه في سوق المصالح. وسينتصر السودان، لا بالمال ولا بالدعم الخارجي، بل بعزيمة أبنائه الشرفاء في القوات المسلحة والمقاومة الشعبية والقوات المشتركة، الذين يقاتلون من أجل أن تبقى راية الوطن مرفوعة، وأن يظل السودان واحداً مهما اشتدت العواصف.



