مقالات الرأي

*بابنوسة تسقط ولا يسمع أنينها أحد. بقلم د. إسماعيل الحكيم*

*بابنوسة تسقط ولا يسمع أنينها أحد. بقلم د. إسماعيل الحكيم..* _Elhakeem.1973@gmail.com_
انشغل الرأي العام السوداني كله باتصال هاتفي من رئيس مجلس الوزراء الدكتور كامل إدريس إلى إحدى والصحفيات ، في الوقت الذي ينبغي أن تنصرف فيها الأبصار والقلوب إلى عمق الجرح الوطني، اتصال عابر كان يمكن أن يُطوى في سطور قليلة، فإذا به يتحول إلى قضية رأي عام تُنسف عبرها قواعد المؤسسية، وتُركن اللوائح جانبًا، وتضيع هيبة الإجراءات الإدارية في لحظة استسهال.
وفي غمرة هذا الضجيج، كانت بابنوسة تنادي ولا مجيب. كانت مدينة كاملة تُنتزع من حضن الوطن، لتقع تحت قبضة مليشيا مسلحة عطشى للهيمنة ورائحة الدم ، بينما أهلها يُحاصرهم الخوف والضباب ويثقل فوق صدورهم صمت العالم وتكرار التجارب . مئات الأسر بين نساء وأطفال يعيشون تحت وطأة واقع قاسٍ، يفتقدون أبسط ضمانات الأمان. وجنود من القوات المسلحة—يحملون شرف الواجب والانتماء—يقعون في قبضة الأسر، في مشهد يضغط على قلب كل سوداني يؤمن بكرامة وطنه.
وفي الوقت ذاته، يتقدم ناظر الرزيقات ويأتي لبابنوسة ليبارك سقوط المدينة، وكأن الخراب إنجاز، وكأن الوجع انتصار. فلم نسمع حينها ردًا يليق بحجم الفجيعة، ولا موقفًا يتناسب مع خطورة الحدث.
وهنا السؤال الذي يضغط على الضمير قبل اللسان،
أين إعلامنا الوطني؟
أين صوت الحقيقة في زمن تغمره الضوضاء الزائفة؟
أين الخطاب العسكري القادر على أن يرفع المعنويات ويشد من أزر الناس ويضع الحقائق في نصابها؟
وكيف تسقط المدن وتتبدل الخرائط بينما ينصرف الرأي العام إلى الهامش، ويُترك المتن وحيدًا في ظلامه؟
إن ما يجري اليوم ليست مناوشات لا قيمة لها ولا خلافًا سياسيًا، ولا حدثًا صغيراً يمكن تجاوزه هكذا..
إنها حرب الكرامة—الحرب التي تُختبر فيها إرادة الأوطان ومتانة الشعوب.
حرب تتطلب وعيًا، وثباتًا، وانشغالًا بما ينفع، لا بما يستهلك العاطفة ويُربك الأولويات.
إن بابنوسة ليست مدينة بعيدة عن سياق الصراع، بل هي مرآة لحقيقة ما يجري.
هي سؤال كبير وملحّ،
هل نملك القدرة على النظر إلى الخطر كما هو؟
وهل نمتلك الشجاعة لنعيد ترتيب أولوياتنا، فنترك الهامش لأهله، ونتوجه إلى قلب الأزمة حيث تُصنع مصائر الأمم؟
الصمت على ما جرى في بابنوسة ليس موقفًا إعلاميًا فحسب، بل هو اختلال في البوصلة الوطنية.
وآن الأوان أن نعيد ضبط هذه البوصلة، وأن ندرك أن وطنًا يُغتصب جزء منه لا يمكن أن يشفى بالتجاهل، ولا أن ينتصر بالتشتيت، ولا أن ينهض بالانشغال بما لا يصنع فرقًا.
إن ما يجري اليوم يجب أن يكون جرسًا لا يُسكت صوته،
النصر لا يصنعه الغياب، ولا يحميه الصمت، ولا تدفعه المعارك الجانبية.
النصر يحتاج إلى وعيٍ حاضر، وإعلامٍ مسؤول، وصفٍ وطنيٍ موحّد، ورؤية لا تتوه وسط التفاصيل.
فبابنوسة اليوم ليست مدينة وكفى.. لا بل اختبارٌ لنبض أمة. واختبارٌ لمدى وفائنا لحرب الكرامة… تلك التي لا يجوز أن يغيب عنها أحد. وما الفاشر وسقوطها منا ببعيد..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى