
منبر الكلمة
جلال الجاك أدول
هجوم كادوقلي… حين تسقط الأقنعة
لم يكن الهجوم الذي استهدف بعثة الأمم المتحدة (يونيسفا) في كادوقلي حادثًا عابرًا يمكن إدراجه ضمن أخطاء الحرب، بل تطورًا خطيرًا يعكس طبيعة الطرف الذي يقف خلفه، ويكشف حجم الاستخفاف بالقانون الدولي وبفكرة الدولة نفسها.
استهداف قوات حفظ السلام يمثل تجاوزًا صريحًا لكل الخطوط الحمراء، ويشير إلى أن الجهة المنفذة قررت نقل الصراع من ميدان المواجهة العسكرية إلى مربع الفوضى الشاملة، بعد عجزها عن تحقيق أي اختراق حقيقي أمام القوات المسلحة السودانية. فعندما تفشل المليشيات في فرض واقع عسكري، تلجأ عادة إلى كسر القواعد، وتوسيع دائرة العنف لتشمل الشهود قبل الخصوم.
في المقابل، ورغم قسوة الحرب وتعقيداتها، ظلّ الجيش السوداني يتصرف بوصفه مؤسسة دولة، تميّز بين العدو العسكري والبعثات الدولية، وتدرك أن حماية المنظمات الأممية ليست ترفًا سياسيًا ولا مجاملة دبلوماسية، بل التزام قانوني وأخلاقي تفرضه طبيعة الجيوش النظامية. وهذا الفارق الجوهري هو ما يفصل بين منطق الدولة ومنطق المليشيا، وبين مؤسسة تخضع للقانون وتشكيل مسلح لا يعترف إلا بالقوة.
الهجوم على يونيسفا يضع المجتمع الدولي أمام اختبار جدي لمصداقيته. فالاكتفاء ببيانات إدانة عامة أو لغة رمادية لا يسمّي الجناة ولا يحمّلهم المسؤولية، لن يؤدي إلا إلى تشجيع المزيد من الانتهاكات، ليس في السودان وحده، بل في مناطق نزاع أخرى شهدت سابقًا نتائج مشابهة لسياسة التغاضي.
كما أن استهداف بعثة أممية تعمل في بيئة معقّدة مثل كادوقلي ومناطق التماس المحيطة بها، لا يمثّل اعتداءً على منظمة دولية فحسب، بل تهديدًا مباشرًا لما تبقّى من استقرار هش في إقليم ظل لسنوات ساحة لتوازنات دقيقة. وهو ما يكشف بوضوح مشروعًا لا يرى في السلام خيارًا، ولا في الدولة إطارًا جامعًا، بل يعتبر الفوضى وسيلة والخراب غاية.
في هذا السياق، تتعزز قناعة قطاع واسع من السودانيين بأن القوات المسلحة ليست طرفًا في صراع على السلطة بقدر ما هي خط الدفاع الأخير عن بقاء الدولة، وعن فكرة القانون في مواجهة منطق السلاح المنفلت. وكلما تكررت مثل هذه الهجمات، ازداد وضوح طبيعة المعركة، وتراجعت محاولات تمييعها أو مساواة الدولة بالمليشيا.
كادوقلي، في هذا المشهد، لم تكن هدفًا عسكريًا بقدر ما كانت رسالة سياسية وأمنية. غير أن الرسائل التي تُكتب بالنار غالبًا ما ترتد على أصحابها، وتفضحهم أمام الداخل والخارج على حد سواء.



