
حين كان البث فعلاً مقاوماً… شهادة من قلب التجربة
بقلم: إدريس هشابه محمد
في لحظات الانهيار الكبرى، لا تُقاس الأفعال بحجم الإمكانات، بل بصدق النوايا وصلابة الموقف. وإعادة تشغيل التلفزيون القومي عقب اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 لم تكن إجراءً إدارياً عادياً، بل كانت فعلاً مقاوماً في زمن كان الصمت فيه أسهل، والانسحاب أكثر أماناً.
في ذلك التوقيت، كانت العاصمة تعيش واحدة من أقسى مراحلها: انفلات أمني واسع، نزوح جماعي، مؤسسات مشلولة، وخطر حقيقي يهدد بغياب الصوت الرسمي للدولة. وسط هذا المشهد القاتم، تقدمت مجموعة مختلطة من منسوبي التلفزيون القومي، وقناتي النيل الأزرق والبحر الأحمر، مدفوعة بالإحساس بالمسؤولية المهنية والوطنية، لتقول عملياً إن غياب الاستقرار لا يعني غياب الواجب، وإن صوت الدولة لا ينبغي أن يُطفأ مهما اشتدت الظروف.
كان مدير قناة النيل الأزرق، الأستاذ عمار شيلا، على رأس هذا الفريق، في واحدة من أكثر اللحظات تعقيداً في تاريخ الإعلام السوداني، وبالتوازي مع ذلك، تولّى جهاز المخابرات العامة مهمة إسناد المؤسسات المدنية، في إطار التنسيق مع اللجنة الأمنية، حيث مثّل الجهاز في هذه المهمة العقيد راشد الفاضلابي، في نموذج للتكامل بين المؤسسات النظامية والمدنية حين تفرض الظروف الوطنية أقصى درجات المسؤولية.
لم تكن البدايات سهلة، ولا الظروف مواتية. العمل جرى بإمكانات شحيحة، واستوديوهات مؤقتة، ومعدات محدودة، وفي ظل غياب مكتبات البرامج والبنية الإنتاجية التي يقوم عليها أي بث فضائي مستقر. ومع ذلك، كان الرهان واضحاً: إبقاء الشاشة مضاءة، ولو بالحد الأدنى، حتى لا يُترك الفراغ الإعلامي لغير أهله، وحتى لا تُختطف الرواية الوطنية في لحظة ضعفها.
واجه العاملون ظروفاً إنسانية قاسية: شُحّ في الموارد، ضغوط نفسية، أمراض، وغياب الاستقرار، لكنهم واصلوا العمل إيماناً بأن وجود التلفزيون، حتى في أضعف حالاته، يحمل رسالة معنوية مهمة للسودانيين، مفادها أن الدولة لم تختفِ، وأن مؤسساتها ما زالت تحاول الوقوف من تحت الركام.
هذه التجربة لا تُستعاد اليوم للتفاخر، ولا لتسجيل مواقف ضد أحد، بل بوصفها شهادة مهنية ووطنية عن مرحلة استثنائية، ودعوة صادقة لاستخلاص الدروس. وأهم هذه الدروس أن الإعلام القومي لا يمكن أن يُدار بذات الذهنيات القديمة، ولا أن يُستعاد بالحلول المؤقتة أو الرؤى الفردية، بل يحتاج إلى مراجعة شاملة، وشجاعة مهنية، وإرادة إصلاح حقيقية.
المرحلة المقبلة تتطلب انخراطاً جماعياً من كل العاملين، داخل السودان وخارجه، في صياغة رؤية جديدة لعمل التلفزيون: رؤية تعترف بأخطاء الماضي، وتراجع اختلالات الإدارة والمهنية، وتعيد تعريف وظيفة الشاشة الرسمية بوصفها خدمة عامة، وصوتاً للمجتمع، ومنبراً يعبر عن قضايا الناس وهمومهم، لا عن أجندات ضيقة أو حسابات آنية.
ولا يمكن الحديث عن هذه التجربة دون التوقف عند تضحيات جسيمة قدّمها العاملون في الحقل الإعلامي. فقد استشهد مدير البرامج المخرج فاروق الزاهر، والمصور مجدي عبد الرحمن، وإبراهيم مضوي فني المونتاج، ووجه السائق إبن الشرق الحبيب، خلال احتفالات تحرير القصر، إثر استهداف مسيرة تابعة لمليشيا مدعومة من دولة الإمارات. أولئك لم يكونوا مجرد أسماء في سجل الفقد، بل زملاء مهنة، حملوا الكاميرا والكلمة في صف الوطن، ومضوا شهداء وهم يؤدون واجبهم، ورفقاؤهم على دربهم سائرون.
تلفزيون ما بعد الحرب يجب أن يكون أكثر قرباً من المواطن، أصدق في نقل معاناته، وأكثر مهنية في معالجته، وأجرأ في طرح الأسئلة التي تشغل الرأي العام. ولن يتحقق ذلك إلا بروح الفريق، وتجاوز الحساسيات، ووقف استنزاف الجهد في خلافات جانبية لا تبني مؤسسة ولا تستعيد ثقة.
الذين تصدوا لمهمة إعادة البث في أصعب اللحظات لم يفعلوا ذلك نيابة عن أحد، ولا خصومة مع أحد، بل أدوا واجباً ظنوا – وما زالوا – أنه واجبهم تجاه وطنهم ومهنتهم. والواجب اليوم أن تتحول تلك التجربة، بما لها وما عليها، إلى نقطة انطلاق لإصلاح حقيقي، لا إلى مادة للانقسام أو التشكيك.
الأوطان لا تُبنى بالمزايدات، والمؤسسات لا تُصلح بالهمس ولا بالتخوين، بل بالإنصاف، والعمل المشترك، والإيمان بأن ما يجمعنا أكبر من كل ما يفرقنا.
ذلك هو التحدي الحقيقي، وتلك هي المعركة التي تستحق أن نخوضها جميعاً.



