مقالات الرأي

جبال النوبة على حافة الكارثة

جبال النوبة على حافة الكارثة:

منقول بتمعن

مقدمة: الإقليم الذي يقف في عين العاصفة
إقليم جبال النوبة – جنوب كردفان – ليس مجرد رقعة جغرافية في خارطة الصراع السوداني، بل هو ذاكرة حرب ممتدة منذ 1983، وجرح مفتوح لم يُمنح فرصة الالتئام، وساحة اختبار دائمة لكل فشل الدولة السودانية في إدارة التنوع والسلطة والهوية. اليوم، ومع تعقّد المشهد العسكري والسياسي، يقف الإقليم على حافة سيناريوهات كارثية، لا تقل خطورة عمّا حدث في الجنينة للمساليت، ولا عمّا يتعرض له الفاشر من استهداف منظم للزُرقة والزغاوة. الخطر هنا ليس احتمالاً نظرياً، بل مساراً يتشكل أمام أعيننا.
أولاً: المشهد الراهن – تعدد البنادق ووحدة الضحايا
في جنوب كردفان، تتقاطع أربع قوى رئيسية:

القوات المسلحة السودانية: مؤسسة تاريخية، يشكّل أبناء الإقليم ما يقارب 70% من قاعدتها البشرية، جنوداً وضباطاً وصف ضباط.

الحركة الشعبية – شمال: بتشعباتها المختلفة، والتي انطلقت أصلاً من مظالم حقيقية في جبال النوبة، لكنها اليوم تعاني من أزمات قيادة ورؤية.

الدعم السريع: قوة عسكرية ذات طابع مليشياوي، تسعى لتوسيع نفوذها عبر التحالفات المحلية، بما فيها محاولات اختراق الإقليم.

تحالفات الدعم السريع مع فصائل من الحركة الشعبية: وهي أخطر حلقات المشهد، لأنها تنقل الصراع من سياسي/عسكري إلى صراع أهلي/هويّاتي.

هذا التعدد في البنادق لا يعني تعدد المشاريع، بل يعني وحدة النتيجة: المدني النوبي هو الخاسر الأكبر.
ثانياً: من الجنينة إلى جبال النوبة – تكرار السيناريو الدموي
ما حدث في الجنينة لم يكن انفجاراً عفوياً، بل نتاج:

شيطنة جماعية.

تسليح مليشياوي.

تحييد الدولة.

استثمار الهويات المحلية في صراع مركزي على السلطة.

نفس العناصر تتكرر اليوم في جبال النوبة:

خطاب تعبوي خطير.

محاولات تصوير الصراع كـ«حرب وجود».

استدعاء المظالم التاريخية دون مشروع عادل لمعالجتها.

إذا تُرك هذا المسار دون وعي وتدخل، فإن سيناريو الجنينة مرشح للتكرار في الدلنج، كادقلي، والجبال الشرقية، مع اختلاف الأسماء ووحدة الدم.
ثالثاً: سيناريو الفاشر – الاستنزاف البطيء والإبادة الصامتة
في الفاشر، لا يحدث القتل دفعة واحدة، بل عبر:

حصار.

تجويع.

إنهاك اجتماعي.

كسر الإرادة.

هذا السيناريو أكثر خطورة في جبال النوبة، لأن:

الطبيعة الجغرافية تساعد على العزل.

تعدد القوى المسلحة يخلق فوضى سيطرة.

المجتمع منهك أصلاً من حرب 1983 إلى 2011 (6/6)، ثم ما تلاها.

النتيجة المتوقعة: إقليم مُنهك، بلا قدرة على الدفاع عن نفسه، وبلا صوت مؤثر في معادلة الدولة.
رابعاً: سؤال الأخلاق والمسؤولية – أين يقف أبناء الإقليم؟
السؤال الأخطر ليس: من يقاتل من؟ بل: لماذا يقتل أبناء الإقليم بعضهم بعضاً؟

أبناء جبال النوبة في القوات المسلحة: يقاتلون باسم الدولة، لكن هل الدولة تمثلهم حقاً؟

أبناء الإقليم في الحركة الشعبية: يرفعون شعارات المظالم، لكن هل المشروع ما زال مشروع تحرير أم صار مشروع سلطة؟

أبناء الإقليم في الدعم السريع: هل يدركون أنهم أداة في مشروع لا يعترف بالأرض ولا بالهوية؟

حين يصبح النوبي وقوداً في كل الجبهات، فإن الخاسر ليس الفصيل، بل الإقليم ذاته.
خامساً: الجذور العميقة – مظالم لم تُحل منذ 1983
منذ اندلاع الحرب في 1983، مروراً باتفاقات ناقصة، وحتى حرب 2011 وما بعدها، ظلت القضايا الجوهرية دون حل:

الأرض (الحواكير).

التنمية غير المتوازنة.

التهميش السياسي.

طمس الهوية الثقافية.

تحويل هذه المظالم إلى وقود حرب جديدة، دون مشروع وطني جامع، هو خيانة للتاريخ وللضحايا.
سادساً: الهوية والثقافة – ما الذي يُستهدف حقاً؟
الصراع في جوهره ليس فقط على السلطة، بل على:

من يملك الأرض؟

من يعرّف الهوية؟

من يكتب التاريخ؟

جبال النوبة مستهدفة كهوية جامعة، متعددة، غير قابلة للاستتباع. كسر هذه الهوية يمر عبر تفكيك المجتمع من الداخل.
سابعاً: السيناريوهات المحتملة – إلى أين نتجه؟

سيناريو الانفجار الشامل: اقتتال أهلي واسع النطاق.

سيناريو الاستنزاف الطويل: حصار وفوضى وانهيار مجتمعي.

سيناريو الوصاية المسلحة: سيطرة مليشياوية باسم الحماية.

السيناريو البديل (الأصعب): وعي جماعي، واصطفاف أهلي، وفرض أجندة الإقليم على الطاولة الوطنية.

خاتمة: ناقوس الخطر
ما يواجهه إقليم جبال النوبة اليوم هو خطر وجودي حقيقي. خطر لا يميّز بين جندي ومدني، ولا بين فصيل وآخر. التاريخ لن يرحم، والأجيال القادمة ستسأل: من أشعل النار؟ ومن صمت؟ ومن حاول أن يوقف الانهيار؟
جبال النوبة لا تحتاج إلى مزيد من الدم، بل إلى مشروع حياة. وكل تأخير في إدراك حجم الكارثة، هو مشاركة صامتة فيها.
هذا المقال دعوة للعقل قبل الرصاصة، وللهوية قبل البندقية، وللإقليم قبل الفصائل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى