
دمج الإعلام الولائي في زمن الحرب… قرار في غير أوانه
في الوقت الذي تعيش فيه البلاد حربًا وجودية منذ العام 2023، كادت أن تبتلع الدولة السودانية وتفكك ما تبقى من مؤسساتها، طفت على سطح الأحداث قضية دمج الهيئات الإذاعية والتلفزيونية الولائية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
وهو قرار قد يبدو، من الناحية الشكلية والإجرائية، خطوة في اتجاه توحيد الخطاب الإعلامي للدولة، خاصة في ظل مهددات تطال ثوابت الدولة السودانية، وتعمل الامارات والقوى السياسية الداعمة للمليشيا بكل همة على ترسيخ الانقسام داخل المجتمع وإضعاف الجبهة الداخلية.
غير أن قراءة أعمق للسياق السياسي والمؤسسي الذي يُطرح فيه هذا القرار، تفرض طرح تساؤلات مشروعة حول توقيته وجدواه وآثاره العملية في ظل واقع هش تعيشه الدولة ومؤسساتها.
الرأي عندي أن مثل هذه القرارات الكبرى، ذات الأثر السيادي والمؤسسي، تحتاج إلى وضع مستقر، يتمثل في حكومة مكتملة الصلاحيات، ومجلس تشريعي منتخب أو متوافق عليه، يضطلع بدوره في التشريع والرقابة، لا أن تُتخذ في ظل حالة انتقالية مرتبكة، وسلطة تنفيذية مثقلة بأعباء الحرب وإدارة البقاء.
يزداد الأمر تعقيدًا إذا ما نظرنا إلى واقع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون نفسها، التي ظلت خلال السنوات الماضية في حالة دمج وفك دمج بين الإذاعة والتلفزيون، دون استقرار إداري أو تشريعي.
فالهيئة، في الأصل، تعمل دون قانون منظم، وتعتمد فقط على أمر تأسيس، وتقلّبت تبعيتها بين رئاسة الجمهورية سابقًا، ورئاسة مجلس الوزراء خلال حكومة عبد الله حمدوك، دون حسم قانوني لطبيعتها أو موقعها في هيكل الدولة.
إن الحديث عن دمج الهيئات الولائية في مؤسسة لم يُحسم وضعها القانوني بعد، يفتح الباب أمام مزيد من الارتباك الإداري، ويضاعف من هشاشة المشهد الإعلامي، بدل أن يعالجه.
لقد تجاوز الإعلام، منذ زمن، كونه ترفًا أو نشاطًا تكميليًا، وأضحى أحد مكونات السيادة الوطنية، وأداة مركزية في حماية الدولة، وتشكيل الوعي العام، وإدارة الصراع في أوقات الحرب.
ومن هذا المنطلق، فإن أي معالجة لملف الإعلام الرسمي يجب أن تنطلق من كونه مرفقًا سياديًا، لا ساحة للتجريب الإداري أو ساحة خاضعة لأمزجة المسؤولين التنفيذيين.
وفي الوضع الراهن، أضحت الهيئات الإعلامية الولائية بيئات رخوة، تخضع لتقلبات ولاة الولايات، وتوجهاتهم ، وأحيانًا مزاجهم الشخصي، ما أفقدها استقلاليتها، وأضعف دورها الوطني، وحوّل بعضها إلى منصات محلية معزولة عن الخطاب القومي الجامع.
إن معالجة ملف الإعلام الرسمي، وفي القلب منه الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، تتطلب قرارًا سياسيًا واعيًا يضع في الاعتبار طبيعة المرحلة وخطورتها.
ومن هنا، فإن الخيار الأكثر اتساقًا مع واقع الحرب والمرحلة الانتقالية، هو إلحاق الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بمجلس السيادة مؤقتًا، باعتبار الإعلام مرفقًا سياديًا، إلى حين استقرار الأوضاع، وقيام مؤسسات تشريعية قادرة على سن قانون متكامل، يحدد تبعية الهيئة، وصلاحياتها، ويعيد ضبط علاقتها بالإعلام الولائي على أسس مهنية ووطنية.
أما القفز إلى قرارات الدمج في هذا التوقيت، دون أرضية قانونية أو مؤسسية صلبة، فلن يؤدي إلا إلى تعميق التشوه القائم، وإضعاف ما تبقى من قدرة الإعلام الرسمي على أداء دوره في معركة الوعي، وهي معركة لا تقل أهمية عن المعركة في ميادين القتال.



