
حين عاد صوت السودان… شهادة من قلب معركة البث
لم تكن الحرب، بالنسبة لي، مجرد أخبار عاجلة أو صور دمار عابرة على الشاشة، بل كانت اختباراً قاسياً لمعنى أن تكون إعلامياً في لحظة انهيار الدولة ومحاولة اختطاف صوتها. واحدة من أكثر تلك اللحظات قسوة وصدقاً، كانت حين احتلت المليشيا المتمردة مبنى التلفزيون، وحاولت أن تجعل من الشارة والصورة أداةً في يدها، لا لتمثيل الحقيقة، بل لتزييفها.
في تلك اللحظة، بدا المشهد قاتماً. التلفزيون محتل، الأجهزة تحت الحراسة المسلحة، والرسالة الوطنية مهددة بالصمت. لكن ما لم تدركه المليشيا، أن الصوت لا يُحتل بسهولة، وأن التلفزيون الحقيقي يسكن في عقول ومهنية من يعملون فيه، لا في المباني وحدها.
من خارج الخرطوم، وبإمكانات محدودة، بدأت واحدة من أجرأ محاولات كسر الحصار الإعلامي. هنا يبرز الدور التاريخي لقطاع الهندسة، ليس في التلفزيون القومي فقط، بل في قناة الولاية الشمالية، التي تحولت في تلك اللحظة إلى منصة وطنية بامتياز.
بقيادة المهندس الشاب أحمد زكي، خاض فريق الهندسة بالقناة تحدياً تقنياً استثنائياً، وتمكن من إتاحة البث عبر الإنترنت، فاتحاً نافذة صغيرة سرعان ما تحولت إلى شريان حياة أعاد صوت السودان إلى المشاهدين.
لم يكن ذلك البث مثالياً من حيث الجودة، لكنه كان عظيماً من حيث الدلالة. كان إعلاناً واضحاً بأن التلفزيون لم يسقط، وأن المليشيا، رغم سلاحها، فشلت في إسكات الرواية الوطنية.
لاحقاً، ومع اتساع التجربة وتراكم الخبرة، انتقل البث إلى مدينة بورتسودان عبر تلفزيون ولاية البحر الأحمر، لتكتمل ملامح تجربة إعلامية ولدت من رحم الحرب. وُضعت خارطة برامجية طارئة، بسيطة في شكلها، عميقة في رسالتها، تواكب المرحلة وتنقل صوت الدولة والمجتمع، بعيداً عن الضجيج والاستقطاب.
في موازاة هذا الجهد التقني، لعب قروب واتساب أنشأه الشهيد فاروق الزاهر دوراً لا يقل أهمية. لم يكن مجرد مساحة تواصل، بل تحول إلى مكتبة مفتوحة وذاكرة حية، تُغذّي الشاشة بالأفكار والمواد والشهادات، في وقت كان فيه الوصول إلى الأرشيف الرسمي شبه مستحيل. كان فاروق، حتى بعد استشهاده، حاضراً في تفاصيل البث، وفي الروح التي دفعت الجميع للاستمرار.
ما يستحق التوقف عنده طويلاً، أن العاملين في هذه التجربة ـ مهندسين، محررين، مذيعين ـ لم يخضعوا لإغراءات المليشيا المالية، ولم يساوموا على مهنيتهم. اختاروا الانحياز للوطن، لا بالشعارات، بل بالفعل اليومي الصامت، وبالعمل في ظروف قاسية، وبلا ضمانات.
عاد صوت السودان عبر أكثر من محطة، وبدأ في تفكيك سرديات الإعلام المعادي، ذاك الإعلام الذي يتدثر بالحياد الزائف، فيساوي بين الدولة والمليشيا، وبين من يدافع عن الناس ومن يعتدي عليهم. لم يكن الخطاب صاخباً، لكنه كان ثابتاً، وواثقاً، ومتماسكاً.
هذه ليست قصة انتصار تقني فحسب، بل شهادة على أن الإعلام يمكن أن يكون فعلاً مقاوماً، وأن الهندسة ـ حين تقاد بعقول شابة مثل أحمد زكي ورفاقه ـ تصبح خط الدفاع الأول عن الوعي الوطني.
أبطال هذه الحكاية كُثر، بعضهم ما زال يعمل في صمت، وبعضهم ارتقى شهيداً، لكن واجبنا المهني والأخلاقي أن نروي ما حدث، كما كان، لا كما يُراد له أن يُنسى.



