من الواقع* *كان يا ما كان* *بقلم: بروفيسور عوض إبراهيم عوض ***

*من الواقع*
*كان يا ما كان*
*بقلم: بروفيسور عوض إبراهيم عوض
***
*
كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، لي منزل في شارع الأربعين بأم درمان. وكان هذا الشارع يضج بالسابلة الذين يسرحون ويمرحون جيئةً وذهاباً. بعضهم يحمل في يده اليمنى كيساً من الخضار من دكان عبد المجيد، وفي يده اليسرى بقية من نقود أعادها له صاحب الخضار وهي قليلة في عداد القروش ولكنها مليئة بالبركة التي كانت تحف أرجاء الطريق. وآخر يمضي مسرعاً ليلحق البص الذي وقف لتوه في المحطة قادماً من الفتيحاب أو الصالحة أو الريف الجنوبي ليصل إلى قلب المدينة النابض بكل عنفوان الضجة وكبرياء المكان مثله مثل بقية الوطن النبيل. وبعض السابلة يمرون عبر هذا الشارع من مستوصف الضو حجوج بعد أن قابلوا الطبيب وأعطاهم وصفة الدواء لما يعانونه من داء لم يكن يستعصي على الدواء. كانت في الوجوه ابتسامات الرضا ببلوغ العافية المستحيلة. وهناك نساءٌ ماشيات على طرف الرصيف، كثيرٌ منهن قادمات من بيت سكينة بت الشايقي التي وضعت إبنتها بالأمس مولوداً ذكراً في جمال العصافير التي تشقشق على أشجار الطريق. هذه الأشجار العنيدة لا تعرف الجفاف رغم تأخر فصل الخريف. ومكمن العناد أنها تصر على نفح الأريج من بين أوراقها النديات النضيرة على مدار السنين. ورويداً رويداً بدأت شمس الأصيل في مغادرة المكان لتفسح المجال لقمرٍ سوف يأتي بعد ساعات قليلة، هدفه النبيل أن ينير شارع الأربعين بنور خفي تبدده في كل يوم لمبات النيون التي لا تتيح له الفرصةً للتبرج أمام ؤلاء السابلة الذين سيتكاثرون بعد هنيهاتٍ قليلة لا محالة. ورغم أنف القمر ولمبات النيون ظل كل واحد من رواد الطريق يؤدي دوره في نقاء مثل ماء النيل، حيث تنساب أنغام المساء في خليط من أصوات أطفال الحارة مع حصين عربات الكوارو العتيقة. وتناغمها بعض الحمير التي أبت إلا أن تستوطن في المدينة رافضةً العودة إلى أم كريدم وعد الغنم والصوفي الأزرق وأم لبانة. أبت مثلها مثل سابلة الطريق أن تعود إلى الريف ما دام هنا من يتعامل معها لافظاً عن معطيات الحضارة من سيارات ودراجات وركشات لا تعمل إلا في حضور الوقود. وسط هذا الكرنفال المتكرر يوماً بعد يوم ظللت أخرج الكراسي الصغيرة من داخل بيتي وأضعها أمام منزلي المطل على الشارع بعناية قائقة أتأمل مسيرة الحياة التي لا تنتهي. تشهيت كل شيء فيها بدءاً بمرور الناس في سجالهم الأبدي مع الشارع، وانتهاءاً بنسمات المساء التي ظلت تعيد إلينا البهجة والسرور بعد رمضاء النهار التي تسربل أوصال الحياة. وما أن أضع الكراسي حتى يطب على مجلسي نفر من رجال عشقوا هذا المكان وكأن لديهم حاسة شم أقوى من أسراب إ[ن آوى التي تملأ ردهات الوطن. هم يدركون أن جلوسهم في هذا المكان سيخرجهم من عناء التفكير في مجريات النهار. إنهم ينسون أو يتناسون تعب الجري وراء لقمة العيش. وينسون شح المال الذي اعتراهم على مر السنين. يفضفضون في هذا المجلس، ويضحكون، ويجترون الذكريات، ويتفاكرون في الآتي الجميل في مجالات الثقافة، والآداب، والفنون، والإعلام وغيرها من المعطيات التي برعوا فيها. أتدرون من هم وجهاء هذا المجلس اليومي أمام منزلي بشارع الأربعين؟ إنهم يا سادتي من يصنعون لكم البهجة والإبداع عبر أثير الإذاعة والتلفزيون كل صباح ومساء. إنهم: الشاعر والكوميديان النبيل جمال حسن سعيد الذي كان يسكن شرق بيتي ويأتي يومياً ليشتري الفول من دكان النتيفة فيعجبه الجلوس وينسى من ينتظرونه بفارغ الصبر ليتناولوا وجبة الفول الساخنة. والشاعر والدرامي الراحل المبدع عبد العزيز العميري الذي رغم أنه لا يشاركنا سكنى الأربعين إلا أنه عاشق لمجلسنا الذي يأتي إليه مستمتعاً بكل ما يقال. والشاعر الصحفي والدبلوماسي الضليع محمد محمد خير الذي كان يسكن الفتيحاب ولكنه شغوف بهذا المجلس الجميل. يأتي في الأمسيات ليفرغ كل ما في نفسه من هموم الدنيا وتوترات الحياة التي تسببها له توترات السياسة والعراك مع المستحيل مع معطيات العمل اليومي فيستريح على تشعبات الحديث. كان مولعاً بقراءة الشعر الذي هو أفضل من يقرضه بين أبناء جيله قبل وبعد أن يرحل إلى قاهرة المعز ضمن شباب المعارضة لنظام نميري فكان نعم المعارض الذي أنتج أروع ما أنتج وهو في ذلك المكان قبل أن يطير إلى الإمارات دبلوماسياً وقوراً ثم إلى كندا في نهاية المطاف. وكان من رواد مجلسنا الدائمين الصديق الحميم لقمان محمد أحمد الذي تحول اسمه في البي بي سي إلى لقمان أحمد لزوم الاختصار، والذي عمل فيما بعد مديراً للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون. وقائمة رواد هذا المجلس تطول وتطول ولكنني أختتمها بذكر الراحل العظيم اللواء أبو قرون عبد الله أبو قرون والعداء الراحل ياسر مصطفى سعيد، ويعقوب فيليب عباس غبوش، ونائب مدير التلفزيون الراحل الأستاذ محمد إبراهيم العاقب، وكثير كثير من المبدعين الذين طواهم سجل الذكريات.