
منبر_الكلمة
جلال الجاك أدول
عودة الأمل
بين أصوات البنادق وصمت الدولة، وبين شتات القوى السياسية ووجع المواطن، جاء قرار تعيين الدكتور كامل الطيب إدريس رئيسًا للوزراء ليحمل معنى يتجاوز الخبر العادي. قرارٌ يُمكن وصفه بأنه نقطة ضوء في نفق ممتد، وخطوة سياسية في توقيت تحتاج فيه البلاد إلى عقلٍ بارد ورؤية متزنة.
القرار الذي أصدره رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، لم يكن عابرًا أو بروتوكوليًا، بل يحمل دلالات عميقة في سياق سياسي معقد ومرحلة انتقالية متعثرة. في لحظة بدت فيها الخيارات محدودة، اختارت القيادة الانتقالية اسمًا وطنيًا، مشهودًا له دوليًا، وذا مسيرة ناصعة في العمل الدبلوماسي والقانوني.
الدكتور كامل إدريس هو أحد أبرز العقول السودانية التي شقت طريقها في المؤسسات الدولية. حاصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة جنيف، وتولى إدارة المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) لأكثر من عقد من الزمان، حيث كسب احترام الدول الكبرى والصغرى على السواء. لا ينتمي إلى أي حزب، ولا تلاحقه حسابات الانتماء السياسي، بل يُنظر إليه كشخصية وطنية فوق الأطر الضيقة، مما يمنحه شرعية معنوية وقدرة على كسب التوافق.
الرسالة الأولى التي يحملها التعيين هي أن الدولة اختارت أن تعود إلى جادة الانتقال المدني. اختيار شخصية مدنية مشهود لها بالكفاءة والمهنية يعني أن هناك إدراكًا رسميًا بضرورة استعادة مؤسسات الحكم المدني، ولو جزئيًا، وإعادة الثقة إلى الشارع السوداني.
الرهان على حكومة كفاءات مستقلة يتوافق مع مطالب الثورة الشعبية، ويعبّر عن رغبة في تجاوز أزمات الحكومات السابقة التي قامت على المحاصصة الحزبية والولاءات الضيقة. الدكتور إدريس يمكنه أن يشكل فريقًا تنفيذيًا يقوم على الجدارة لا الانتماء.
وجود إدريس على رأس الحكومة يمنح السودان فرصة ذهبية لإعادة ترتيب علاقاته الخارجية، وطلب المساندة في ملفات اقتصادية وإنسانية شديدة التعقيد. لديه شبكة علاقات دولية واسعة، وصورة محترمة في العواصم الكبرى، ما يجعله مؤهلًا لإعادة السودان إلى دائرة الاهتمام والدعم الدولي.
القرار أيضًا يعكس استجابة متزنة للضغوط الداخلية والخارجية، ويُظهر حرص القيادة الانتقالية على استقرار البلاد، وتجاوز حالة الترقب والتأزم التي خيّمت على المشهد منذ اندلاع الحرب.
لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود. سيواجه الدكتور كامل إدريس ثلاثة تحديات رئيسية.
الحرب المستمرة لا تزال تفرض كلفتها على أرواح الناس، وأمنهم، ومقدرات البلاد. لا يمكن لأي حكومة أن تعمل ما لم يُحقق السلام أولًا.
الوضع الاقتصادي المنهار تجاوز مرحلة الشكوى إلى مرحلة الخطر، مع ارتفاع التضخم، وانقطاع سلاسل الإمداد، وشح الموارد.
أزمة الثقة العامة هي الأعمق، فقد أصبح المواطن السوداني يتعامل بحذر شديد مع كل جديد، بعد أن تكررت التجارب المخيبة. استعادة هذه الثقة تبدأ بالشفافية، وتُبنى بالنتائج، لا بالوعود.
قرار الفريق أول عبد الفتاح البرهان بتعيين شخصية مستقلة مثل كامل إدريس يُظهر نضجًا سياسيًا وتقديرًا دقيقًا لخطورة اللحظة. فبينما قد تكون الخيارات محدودة، فإن اختيار قيادة من خارج التوازنات التقليدية، يمثّل في حد ذاته جرأة وإدراكًا لضرورة التغيير.
كامل إدريس ليس عصا سحرية، لكنه فرصة. والفرص لا تأتي كثيرًا في تاريخ الشعوب. نجاحه لا يتعلق به وحده، بل بمقدار التعاون الوطني الذي سيحاط به، والدعم الشعبي والسياسي الذي سيُمنح له.
نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى وعي وطني جماعي يُدرك حجم المخاطر، ويقدّر أهمية أن نبدأ من جديد… لا من الصفر، بل من حيث توقفت الإرادات حين تقاطعت المصالح.
فلنعطِ الأمل مساحة… فربما كان هو العائد الوحيد الذي لم يُصادر بعد.