بروفسير احمد عبيد حسن يكتب: رؤية خاصة الصناعة “الضحية الصامتة” قرار دمج الصناعة والتجارة: بين مقتضيات الإصلاح وضرورات النهوض الصناعي

بروفسير احمد عبيد حسن يكتب:
رؤية خاصة
الصناعة “الضحية الصامتة”
قرار دمج الصناعة والتجارة: بين مقتضيات الإصلاح وضرورات النهوض الصناعي.
في خطوة أعلن عنها رئيس مجلس الوزراء مؤخراً، تقرر دمج وزارتي الصناعة والتجارة في وزارة واحدة ضمن حزمة إصلاحات هيكلية حكومية تهدف إلى تقليص الإنفاق وتبسيط الجهاز التنفيذي في ظل ظروف اقتصادية وأمنية معقدة تمر بها البلاد. وبقدر ما يمكن تفهُّم الدوافع السياسية والإدارية لهذا القرار، إلا أن النظر إلى موقع “الصناعة” في المشهد السوداني اليوم يدعو إلى وقفة تأمل جادة، وإلى مراجعة هادئة لهذه الخطوة، خصوصاً في هذه المرحلة التي تقتضي رؤية تنموية بعيدة المدى، لا تكتفي برد الفعل أو منطق تقليص الهياكل.
إن الصناعة في السودان اليوم ليست مجرد “قطاع اقتصادي”، بل هي عمود فقري لإعادة الإعمار، وصمام أمان لتعافي الاقتصاد الوطني، ومفتاح رئيس لمعالجة البطالة، وتثبيت الاستقرار الاجتماعي، وخلق القيمة المضافة محلياً بدل تصدير المواد الخام. من هذا المنظور، فإن دمج الصناعة ضمن وزارة ذات طبيعة تجارية قد يحمل في طياته مخاطر تمييع أولويات التنمية الصناعية أو تهميش ملفاتها المعقدة والمركبة، لصالح أجندة التجارة الآنية، التي غالباً ما تكون أقرب إلى متطلبات السوق اليومية منها إلى تخطيط استراتيجي بعيد المدى.
في بلد مثل السودان، ما زال يعتمد بدرجة كبيرة على تصدير المواد الخام واستيراد معظم احتياجاته الصناعية والاستهلاكية، تبدو النهضة الصناعية ضرورة لا رفاهية. ولا يمكن لهذه النهضة أن تتبلور من دون مؤسسة وزارية ذات هوية صناعية واضحة، لديها القدرة والموارد البشرية والهيكل الإداري لصياغة سياسات تصنيعية وطنية، وتوفير البيئة القانونية والتمويلية، والتنسيق مع الجهات الأخرى، داخلياً وخارجياً، لإنشاء وتطوير مناطق صناعية، وجذب المستثمرين، وفتح الأسواق أمام المنتجات السودانية.
تجربة دمج الصناعة مع التجارة شهد فشلا زريعا في حكومة الثورة في 2019 وقبلها في كل الحكومات التي كانت تنظر لوزارة الصناعة كوزارة محاصصة. كما انه في عدد من الدول النامية أظهرت، في أغلب الحالات، أن الصناعة تصبح “الضحية الصامتة” داخل الوزارة الجديدة، بسبب غلبة الملفات التجارية اليومية، التي تفرض نفسها من خلال الأزمات المتكررة (مثل التضخم، أسعار السلع، شح العملات، تنظيم الواردات…). في هذه الحالة، تصبح ملفات مثل تطوير البنية التحتية الصناعية، دعم التصنيع المحلي، التدريب الفني، وتمويل المصانع، ملفات مؤجلة أو مهمشة، لأنها لا تنتج نتائج فورية، بل تتطلب نفساً طويلاً واستقراراً في الرؤية.
من الخطأ الاستراتيجي النظر إلى وزارة الصناعة كمجرد هيكل إداري قابل للإلغاء أو الدمج دون تداعيات. فهي اليوم تمثل بوابة التعافي الاقتصادي، وركيزة بناء المستقبل، وصوت الصناعيين الذين يحتاجون لوزارة تُعبّر عنهم وتخاطب قضاياهم باحترافية وتخصص.
إن الإبقاء على وزارة مستقلة للصناعة ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية في مرحلة نهوض اقتصادي تتطلب وضوح الرؤية، وتركيز الجهود، ومرونة السياسات.
السودان بعد الحرب، وفي مرحلة إعادة الإعمار، يحتاج إلى “وزارة استثنائية للصناعة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وزارة تقود مسار التحول الهيكلي للاقتصاد، وتضع خططاً متكاملة لإعادة تشغيل المصانع المتوقفة، وتشجيع الاستثمار في القطاعات الصناعية ذات الأولوية (كالدوائية، الغذائية، مواد البناء، والصناعات التحويلية)، وتطوير المهارات البشرية، وبناء سلاسل قيمة محلية متكاملة.
وإذا كان لا بد من الدمج في هذه المرحلة، فإن من الأجدر – من ناحية منطقية واستراتيجية – أن يكون دمج وزارة الصناعة مع وزارة المعادن، لا التجارة، لكون التعدين صناعة في جوهره، ويواجه تحديات مشابهة تتعلق بالبنية التحتية، البيئة، التمويل، والتقانات. ويمكن أن يتيح هذا الدمج التناغم في التخطيط المشترك، خاصة أن السودان يمتلك ثروات معدنية ضخمة يمكن أن تكون أساساً لصناعات تحويلية معدنية محلية (مثل الإسمنت، الأسمدة، المواد الكيميائية، الصناعات المعدنية الخفيفة).
إن الاقتصاد السوداني في أمسّ الحاجة إلى قفزة نوعية في مجال الإنتاج، لا في تنظيم السوق فقط. والتاريخ الاقتصادي يعلمنا أن الأمم التي خرجت من الحرب إلى الاستقرار، لم تبنِ اقتصاداتها من خلال التجارة فحسب، بل من خلال إنتاج محلي قوي، مدعوم بصناعة وطنية متطورة. ومن هذا الباب، فإن إضعاف الحضور المؤسسي للصناعة، سواء عبر الدمج أو تقليص الميزانية أو تقليص صلاحياتها، سيكون خطأ استراتيجياً قد يدفع الاقتصاد ثمنه على المدى الطويل.
إن الدعوة إلى إعادة النظر في قرار دمج الصناعة والتجارة ليست اعتراضاً على مبدأ الإصلاح الإداري، بل هي تأكيد على أن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بتقليص عدد الوزارات، وإنما بإعطائها المهام الواضحة، والتمويل المناسب، والصلاحيات الكافية لتحقيق الأثر التنموي المطلوب.
ولذلك، فإن من الضروري أن يُعاد تقييم القرار على ضوء الظروف الاستثنائية التي يعيشها السودان، وأن تُمنح الصناعة وزنها الكامل ضمن الهيكل التنفيذي، سواء عبر وزارة مستقلة أو عبر كيان إداري بصلاحيات تنفيذية كاملة داخل الوزارة المدمجة – على أن يظل اسمها وموقعها محفوظًا في هوية الدولة التنموية.
إن التنمية لا تصنعها التجارة وحدها، بل تبنيها الصناعة أولاً.