دراسة لقرار السودان بإعادة فرض الرسوم الجمركية على واردات الكوميسا. بقلم الدكتور/ محمد عوض محمد متولي

إستراتيجية الحماية المؤقتة: دراسة لقرار السودان بإعادة فرض الرسوم الجمركية على واردات الكوميسا.
بقلم الدكتور/ محمد عوض محمد متولي.
الخبير الاقتصادي المشارك بمركز الخبراء للدراسات الإنمائية وتحليل الأزمات.
أكتوبر 2025م.
___________________
*مقدمة : تفكيك قرار التراجع التكتيكي*
يهدف هذا التحليل المنهجي العلمي والمفصل إلى تفكيك قرار جمهورية السودان، ممثلة في وزارة الصناعة والتجارة، إعادة فرض الرسوم الجمركية على السلع والخدمات المستوردة من الدول الأعضاء في السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (COMESA)، اعتبارًا من 1 نوفمبر 2025. تستند هذه الدراسة إلى الوثيقة الرسمية الصادرة بتاريخ 25 سبتمبر 2025م. يُعدّ الانضمام إلى التكتلات الإقليمية خطوة استراتيجية، ولطالما مثّل إلغاء الرسوم الجمركية (صفر الرسوم) حجر الزاوية في هذا التكامل. إن قرار إعادة فرض الجمارك يمثل تحولًا اقتصاديًا جذريًا وتراجعًا جزئيًا ومؤقتًا عن التزامات منطقة التجارة الحرة للكوميسا، مما يتطلب تحليلاً عميقاً لفهم دوافعه الحقيقية وآثاره المتعددة الأبعاد على الاقتصاد الوطني السوداني وعلى علاقته بالتكتل الإقليمي.
1. الإطار العام والسياق المنهجي للقرار
يُعد القرار الصادر بمثابة تراجع جزئي ومؤقت عن التزامات السودان في إطار منطقة التجارة الحرة للكوميسا (COMESA FTA). يتسم التحليل بالمنهجية عبر دراسة الدوافع، الآثار، والسياق الزمني والقانوني للقرار.
أ. السياق القانوني والزمني
الجهة المُصدرة هي وزارة الصناعة والتجارة في جمهورية السودان بتاريخ 25 سبتمبر 2025، وبدأ سريانه في 1 نوفمبر 2025. تستند خلفيته المرجعية إلى:
الاجتماعات التشاورية مع الفريق الوطني السوداني.
توصيات مجلس وزراء الكوميسا الصادرة خلال اجتماعه الخامس والأربعين في لوساكا، زامبيا، بتاريخ 28 نوفمبر 2024.
مخرجات الاجتماع الواحد والأربعين لوزراء التجارة والجمارك في نيروبي، كينيا، خلال الفترة 22-25 يوليو 2025، والتي “أكدت الحاجة إلى تسريع تنفيذ التوجيهات الصادرة عن المجلس المذكور”.
هذا التسلسل الزمني يُشير إلى أن القرار ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج مسار تفاوضي وتشاوري استمر لأكثر من عام، تم خلاله مناقشة الترتيبات التجارية للسودان ضمن إطار الكوميسا.
2. تحليل الدوافع والأسباب الجوهرية للقرار (المنظور الاقتصادي السياسي)
القرار هو نتاج تداخل بين ضرورات السياسة المالية وضغوط السياسة التجارية في ظل أزمة هيكلية:
أ. الضغط المالي والإيرادات الحكومية (الدافع المالي الأولي)
فجوة الميزانية: في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تمثل الإيرادات الجمركية شريانًا حيويًا ومصدرًا سريعًا وموثوقًا لتمويل الميزانية العامة للدولة، مما يجعله إجراءً طارئاً لتعويض النقص الحاد في الإيرادات.
مرونة الجباية: تُعد الجمارك من أسهل أدوات الجباية الحكومية وأسرعها تنفيذًا، مقارنة بالإصلاحات الضريبية الهيكلية.
ب. حماية الصناعة والمنتجات الوطنية (الحمائية الانتقائية)
المنافسة غير المتكافئة: يُمكن أن يكون القرار بمثابة إجراء حمائي مؤقت لتمكين المصانع والمنتجات المحلية من التقاط الأنفاس واستعادة حصتها في السوق، تطبيقاً لـحجة الصناعة الوليدة أو المتضررة.
تشوهات تجارية: قد يكون القرار ضرورياً لمكافحة استغلال “صفر الرسوم” في إطار الكوميسا لـتهريب أو إغراق السوق بمنتجات منشأها الفعلي خارج الكوميسا.
ج. ضغوط الامتثال التجاري والتفاوضي
انتهاء المعاملة الخاصة: قد يعني القرار أن الفترة التي كان يتمتع فيها السودان بـإعفاء مؤقت من تطبيق “صفر الرسوم” قد انتهت بناءً على توصيات مجلس وزراء الكوميسا.
مبدأ المعاملة بالمثل: قد يكون القرار ردًا على ممارسات تجارية من دول أعضاء أخرى لم تلتزم بالكامل بتطبيق قواعد التجارة الحرة مع السودان.
3. تقييم التأثيرات: الإيجابيات والسلبيات (تحليل التكلفة والعائد)
أ. الإيجابيات المنهجية المتوقعة (العائد القصير الأجل)
الاستقرار المالي: تحقيق زيادة فورية ومباشرة في إيرادات الخزانة، مما يساهم في سد جزء من عجز الموازنة.
تصحيح ميزان المدفوعات: تقليل قيمة الواردات، مما يخفف مؤقتاً من الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي.
حماية الإنتاج: توفير غطاء تنافسي للصناعات الوطنية، وتشجيع تأثير إحلال الواردات (Import Substitution Effect).
جذب الاستثمار: إمكانية جذب الاستثمار الأجنبي المباشر الموجه نحو السوق المحلي لتجاوز الرسوم الجمركية.
ب. السلبيات والتحديات المنهجية (التكلفة متوسطة وطويلة الأجل)
تصاعد الضغوط التضخمية (Inflationary Pressure): الارتفاع الحتمي في أسعار السلع المستوردة من الكوميسا، حيث يتم نقل عبء التعريفة إلى المستهلك النهائي، مما يقلل من القوة الشرائية ويزيد من التفاوت الاجتماعي.
خلق عدم كفاءة هيكلية: الحماية الجمركية تقلل من حافز الابتكار، وتؤدي إلى خسارة وزن ميت (Deadweight Loss) على مستوى الاقتصاد الكلي وتشويه تخصيص الموارد.
زيادة تكلفة الإنتاج: ارتفاع تكلفة المدخلات والمواد الخام المستوردة من دول الكوميسا، مما يضر المصانع التي تعتمد عليها.
خطر الانتقام التجاري: احتمال لجوء دول الكوميسا لفرض إجراءات انتقامية تجارية (Trade Retaliation) على الصادرات السودانية الحيوية (الماشية والمنتجات الزراعية).
تآكل المصداقية الإقليمية: الإضرار بالصورة التجارية للسودان كشريك موثوق به في مفاوضات التكامل الإقليمي والدولي.
4. التأثير على سوق الصرف والنقد الأجنبي ومكافحة التهريب:
يمتد التأثير الاقتصادي لهذا القرار إلى ما يلامس بشكل مباشر أزمة العملة ونشاط السوق الموازي:
ترشيد الطلب على النقد الأجنبي: إعادة فرض الرسوم تعمل كـ**”أداة غير مباشرة لترشيد الاستيراد”**، مما يُتوقع أن يقلل من الطلب الكلي على النقد الأجنبي (USD Demand) في السوقين الرسمي والموازي لتمويل هذه الواردات، وقد يؤدي إلى استقرار مؤقت في وتيرة تدهور سعر الصرف.
ديناميكية التهريب (Smuggling Dynamics): فرض الرسوم يمكن أن يحد من التهريب المنظم عبر استخدام سلع الكوميسا كـ”ستار” لإدخال سلع منشأها خارج التكتل. لكن في المقابل، تزيد الرسوم من الحافز لـالتهريب التقليدي عبر الحدود البرية لتجنب دفع التعريفة الجديدة، مما يتطلب تعزيز الرقابة الجمركية.
أثر التوقع والاستجابة: يعتمد التأثير النهائي على سوق الصرف على توجهات المستوردين. إذا توقعوا أن القرار مؤقت، قد يسارعون إلى التخزين، مما يضغط على النقد الأجنبي مؤقتاً، ولكن بعد السريان، يُفترض أن يقل الضغط.
*5. التوصيات المستقبلية الاستشرافية : وتحديد الجهات المسؤولة:*
هذه التوصيات المنهجية تهدف إلى تحويل القرار إلى أداة لإصلاح هيكلي مؤقت وضمان استغلال الفترة الزمنية في بناء التنافسية الحقيقية:
تطبيق نظام حماية زمنية مشروطة (Sunset Clause): يجب أن تكون الرسوم مؤقتة وتُربط بتحقيق الصناعات لأهداف كفاءة محددة. (وزارة الصناعة والتجارة، مجلس الوزراء).
تخصيص إيرادات الجمارك الجديدة (Ring-Fencing): توجيه كامل الإيرادات الإضافية إلى صندوق مخصص لتمويل مشاريع البنية التحتية الأساسية التي ترفع تنافسية الصادرات. (وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، البنك المركزي).
تسريع الإصلاح الضريبي: تكثيف الجهود لزيادة الإيرادات من الضرائب المباشرة للابتعاد عن الاعتماد على الجمارك كـمصدر دخل غير مستدام. (مصلحة الضرائب، وزارة المالية).
إنشاء شبكة أمان اجتماعي مرنة: تأسيس صندوق تعويض أو تفعيل برامج دعم نقدي موجهة ومؤقتة للفئات الأكثر فقراً لمواجهة الصدمة التضخمية. (وزارة المالية، وزارة الرعاية الاجتماعية).
برنامج تطوير الكفاءة الإنتاجية: ربط الحماية الجمركية بـخطط إلزامية لرفع الجودة وتبني التكنولوجيا الحديثة لدى الشركات المحلية. (وزارة الصناعة، هيئة المواصفات والمقاييس).
الإعفاء الكامل للمدخلات: تطبيق إعفاء فوري وكامل من الرسوم الجمركية على جميع المواد الخام والمعدات التي لا تُنتج محلياً، حتى لو كانت من دول الكوميسا، لخفض تكلفة الإنتاج الكلية. (هيئة الجمارك، وزارة الصناعة والتجارة).
تنويع مصادر الاستيراد: وضع حوافز لتوجيه المستوردين إلى استيراد السلع الضرورية من دول خارج الكوميسا برسوم أقل. (وزارة الصناعة والتجارة، البنك المركزي).
دعم “الصناعات الموجهة للتصدير”: توجيه الدعم والحماية بوضوح نحو الصناعات التي لديها ميزة نسبية وإمكانية الوصول للأسواق الإقليمية (Export-Oriented Industries). (وزارة الصناعة، هيئة تنمية الصادرات).
تعزيز الرقابة على الأسواق ومنع الاحتكار: تشديد الرقابة لمنع التجار المحليين من استغلال الرسوم الجديدة لرفع الأسعار بشكل غير مبرر. (وزارة الصناعة والتجارة – حماية المستهلك).
تسهيل الاستثمار البديل للواردات: تبسيط الإجراءات ومنح حوافز ضريبية خاصة للمستثمرين الراغبين في إقامة مشاريع لإحلال السلع المستوردة من الكوميسا. (الهيئة العامة للاستثمار، وزارة المالية).
المفاوضات الثنائية العاجلة: البدء فوراً بمفاوضات ثنائية مع الشركاء التجاريين الرئيسيين في الكوميسا لتقديم تنازلات محددة ومتبادلة على سلع استراتيجية. (وزارة الصناعة والتجارة، وزارة الخارجية).
الدفاع عن القرار إقليمياً: إعداد ملف فني وقانوني متكامل لتقديمه للكوميسا يثبت أن القرار جاء نتيجة “صعوبات اقتصادية خطيرة” تبرر تفعيل البند الوقائي. (وزارة الصناعة والتجارة، وزارة العدل).
تعزيز التجارة العابرة (Transit Trade): الاستثمار في تطوير دور السودان كـجسر بري وبحري لدول الكوميسا غير الساحلية لتعويض أي خسارة في التجارة السلعية. (وزارة النقل، هيئة الموانئ البحرية).
مراجعة قواعد المنشأ: إجراء دراسة معمقة لـقواعد المنشأ في الكوميسا للعمل على تعديلها مستقبلاً بما يخدم قدرة المنتجات السودانية على النفاذ. (وزارة الصناعة والتجارة، الغرف التجارية).
تطوير المناطق الحرة واللوجستية: إنشاء وتطوير مناطق اقتصادية خاصة (SEZs) لتعزيز التجارة وإعادة التصدير خارج نطاق الرسوم. (هيئة المناطق الحرة، وزارة التخطيط العمراني).
صياغة استراتيجية تجارة خارجية شاملة: وضع استراتيجية متكاملة تحدد بوضوح الأولويات الوطنية في التجارة مع مختلف التكتلات. (وزارة الصناعة والتجارة، مجلس الوزراء الاقتصادي).
سياسة صرف مرنة ومستقرة: العمل على تحقيق استقرار في سوق الصرف من خلال سياسات نقدية منضبطة لتقليل الحاجة إلى استخدام الرسوم كأداة لحماية العملة. (البنك المركزي السوداني).
ربط الدعم بالتكنولوجيا: توجيه الدعم الحكومي والتمويل الميسر نحو استيراد التكنولوجيا والآلات الحديثة لتحسين الإنتاجية في القطاعات الزراعية والصناعية. (البنوك المتخصصة، وزارة الزراعة).
بناء القدرات التفاوضية: تدريب وتأهيل الكوادر الحكومية في التجارة الدولية والقانون الاقتصادي الدولي لتعزيز موقف السودان في المفاوضات. (معهد الدراسات الدبلوماسية، وزارة الصناعة والتجارة).
الشفافية والمساءلة: إلزام الوزارات والجهات المعنية بنشر تقارير دورية تقيم فيها الأثر الاقتصادي الفعلي للقرار على الإيرادات، ومعدلات التضخم، ومستوى كفاءة الصناعات المحلية. (مجلس الوزراء، وزارة المالية).
خاتمة تحليلية استشرافية: بين المكاسب العاجلة وتحديات المستقبل
يمثل قرار السودان إعادة فرض الرسوم الجمركية خطوة ذات تأثير مزدوج الحد (Double-Edged Sword). ففي حين يقدم حلاً سريعًا وعمليًا لمشكلة السيولة المالية الحالية ودعمًا فوريًا لبعض الصناعات المنهكة، فإنه يحمل في طياته بذور تراجع في الكفاءة الاقتصادية وتفاقم للتضخم على المدى الطويل. النجاح الحقيقي لهذا القرار لا يكمن في حجم الإيرادات الجمركية التي سيحققها، بل في كيفية استغلال “فترة الحماية” لضخ استثمارات حقيقية في إصلاح القطاعات الإنتاجية المستفيدة. إن عدم استغلال هذه الفترة في تحسين الجودة وخفض التكاليف التنافسية سيجعل من الرسوم عبئًا دائمًا على المستهلك والاقتصاد، ويؤدي إلى فقدان التنافسية بدلًا من بنائها. يجب أن يكون القرار مصحوبًا بخطة إصلاح هيكلي واضحة ومحددة بمدة زمنية لرفع الحماية بشكل تدريجي ومدروس لتجنب الوصول إلى حالة التضخم الركودي (Stagflation).



