
منبر الكلمة
جلال الجاك أدول
أين يقف منان من أبيي؟
منذ سنوات طويلة، ظلّت قضية أبيي تمشي على أرضٍ رخوة؛ خطوة تتقدّم وأخرى تتراجع، حتى بات أهل المنطقة يحفظون تفاصيل الخيبة كما يحفظون أسماء القرى والوديان. واليوم، حين نتناول تجربة الفريق شرطة د. حامد منان محمد مرغني رئيس لجنة الإشراف السودانية لأبيي، فنحن نفعل ذلك بدافع المسؤولية لا بدافع الخصومة، وبقلمٍ يضع الحق فوق الودّ، لأن قضية أبيي أكبر من الأشخاص وأوسع من العلاقات الإنسانية مهما بلغت حرارتها.
وللأمانة، أقولها بلا مواربة أعرف الفريق منان معرفة ليست بعيدة. بيننا تقدير، وأحياناً نتبادل النقاش حول ملف أبيي وإنسانها. ولكن هذه القربى المحدودة لا تمنع أن أكتب بوضوح، لأن ما بيني وبين أبيي أعمق بكثير مما بيني وبين أي مسؤول.
منذ تعيين الفريق منان في 3 يوليو 2024، انتظر الناس أن تعود اللجنة السودانية إلى دورها الطبيعي في الدفاع عن حقوق مواطني المنطقة، وبناء جسر تواصل فعال مع الإشرافية الجنوبية، تماماً كما حدث آخر مرة في اجتماع أديس أبابا عام 2016 في عهد المهندس حسن علي نمر. يومها، اختلف الناس حول النتيجة، لكنهم اتفقوا على شيء واحد الاجتماع حدث بالفعل. كان هناك حراك، وكان هناك صوت.
أما اليوم، فمرت السنين تباعاً دون أن يسمع الرأي العام عن اجتماع واحد بين الإشرافية السودانية ونظيرتها الجنوبية، وكأن الملف دُفن في أدراج مغلقة، أو تُرك رهينة المزاج السياسي المتقلّب في الخرطوم وجوبا.
وليس من العدل أن نضع كل اللوم على كتفي الفريق منان. فهو جاء في ظرف سياسي معقّد، والبلاد نفسها تخوض حرباً وتعيش انقساماً وتشتتاً. لكن أيضاً، ليست من العدالة أن نرفع عنه كل المسؤولية، لأن المنصب الذي اختاره أو قُدّر له يتطلب مبادرة وصوتاً عاليًا وحضوراً دائماً، لا غياباً غامضاً أو صمتاً طويلاً.
المواطن في أبيي لا ينتظر مؤتمرات كبرى، ولا بيانات منمّقة. كل ما يريد هو أن يشعر أن من يمثّله موجود، يسمع، يتحرّك، يتواصل، يفاوض، ويضغط، ويجمع الأطراف حول طاولة تُعيد للناس حدّاً أدنى من الأمان والمستقبل.
إعادة فتح ملف الاجتماعات بين الإشرافيتين ليست مسألة بروتوكول. إنها واجب سياسي ودبلوماسي وأخلاقي. الحاجة ملحّة للعودة إلى طاولة المباحثات، حتى لو كانت البداية همساً قبل أن تصبح صوتاً، أو لقاءً تمهيدياً قبل أن يصبح مؤسَّساً. المهم أن نرى خطوة في الاتجاه الصحيح.
إن الفريق منان يملك أدوات يمكنه البناء عليها خبرة أمنية واسعة، حضور اجتماعي جيد، علاقات ممتدة، ومعرفة بتعقيدات الملف. وهذه مزايا مهمة، لكنها تصبح بلا قيمة إن لم تُترجم إلى نتائج ملموسة على الأرض.
ولست أكتب هذا المقال للهجوم، بل للدفع نحو الفعل. فالقضية أكبر من الصمت، وأكبر من المسؤولية الموضوعة على كتفي رجل واحد، لكنها تبدأ منه، لأنه في نهاية المطاف ممثل الدولة في واحدة من أعقد مناطقها.
إن إنسان أبيي من الشمال والجنوب لا يستحق مزيداً من الانتظار. وعلى الفريق منان أن يدرك أن التاريخ لا يحفظ النوايا، بل يحفظ ما يُنجز على الأرض. ولذا فإن المطلوب اليوم واضح وبسيط:
إعادة التواصل فوراً مع الإشرافية الجنوبية.
الدعوة لاجتماع مهما كان صغيراً أو رمزياً لكسر دائرة الجمود.
مخاطبة الرأي العام بتقارير دورية توضح ما يجري في الملف.
العمل بروح جديدة تتناسب مع جسامة التكليف.
كتبت هذا المقال بصدق، وبمسؤولية، وبإحساس ابن المنطقة الذي يريد أن يرى خطوة إلى الأمام ولو كانت صغيرة. لا أنكر مودتي للفريق منان، لكن مودتي الأكبر والأصدق هي لأرض أبيي وناسها، الذين تعبوا من الصمت، ومن الوعود، ومن الانتظار الطويل.
ولعل هذا المقال يكون بداية حديث مختلف، وحديث صريح، وحديث مفيد…
لا لأجلي، ولا لأجل الفريق منان، بل لأجل أبيي التي تستحق أكثر.



