*العَلَم… حين يتحوّل من قطعة قماش إلى إعلان ميلاد أمة.. بقلم د. إسماعيل الحكيم*

*العَلَم… حين يتحوّل من قطعة قماش إلى إعلان ميلاد أمة.. بقلم د. إسماعيل الحكيم*
*Elhakeem.1973@gmail.com*
إنما.. أعلام البلدان لغة ناطقة تعريفية.. وليست الأعلام مجرّد ألوان تُرفع على الساريات، ولا مجرد شُعَرٍ تُخاط بأيدٍ خبيرة. العَلمُ – في جوهره – فكرة تتجسّد، ورمز تُختصر فيه ذاكرة وطن كاملة، وتجربة شعب، ومسار دولة تريد أن تُعرِّف نفسها للعالم. ولهذا كانت الأمم، منذ فجر التاريخ، تبدأ مشروعها السياسي بعَلَم، لأنه التعريف الأول بالذات، والبيان الأول لإرادة الوجود.
فالعلم ليس زينة تُزيَّن بها صدور المؤسسات، بل هو مرآة الدولة وواجهتها.. بل هو قيمها، مشروعها، رسالتها العمومية. ولهذا كانت عملية اختيار العلم من أدقّ القرارات التي تتخذها الأمم عند لحظات التحوّل الكبرى، إذ يُصاغ وفق أسئلة عميقة ، ما الدولة التي نريد؟ ما الذاكرة التي نحتفظ بها؟ ما الرسالة التي نرسلها لشعبنا وللعالم؟ وما المستقبل الذي نُعلن ولاءنا له؟
وحين تختار دولة ما علمًا لها، فهي لا تختار ألوانًا، إنما تختار اتجاهًا وقبلة ، فاختيار العلم هو اختيار الرواية التي تريد أن ترويها للعالم ، والهوية التي تريد أن تزرعها في نفوس أبنائها. لذلك لا يُبدَّل العلم إلا حين تكون الدولة على أعتاب ولادة جديدة أو تحول جذري، لأن تغيير العلم يعني – في العمق – تغيير الصفحة التاريخية التي يقف عندها الوطن وكان عليها يتكئ..
ومن هذا الباب، جاء تصريح الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أمس، حين أعلن نية الدولة السودانية في مرحلة ما بعد الحرب العودة إلى علم الاستقلال لعام 1956م . إذ لم يكن ذلك التصريح خبط عشواء بل كان رسالة سياسية مكتملة الأركان، محمولة على رمزية عميقة وذات دلالات بعيدة.
إن العودة إلى علم الاستقلال ليست حنينًا للماضي فحسب، وليست خطوة رمزية لتغيير شكل ألفه الناس ، إنها – في حقيقتها – إعادة ضبط للبوصلات الوطنية، وتوجيه لمسار الدولة نحو أصل الفكرة سودان الإرادة، سودان الدولة الوطنية، سودان الاستقلال الأول.
الرسالة الأولى موجّهة إلى المليشيا المتمردة وداعميها. فالمليشيا ظلّت تردد – في دعايتها – أنها تريد القضاء على ما تسميه “دولة 56”، في إشارة إلى الدولة السودانية التي وُلدت مع الاستقلال. وكأن البرهان يقول بوضوح،
“أنتم تهدمون… ونحن نعود إلى الجذور لنؤسس من جديد.” على هدي وبصيرة ما تزال متقدة..
ليس بناءً على أنقاض دولة 56 كما تدّعي المليشيا، بل عودة واعية إلى الأصل، لاستئناف المشروع الوطني من النقطة الصحيحة، وليس من الفوضى التي حاولت العصابات جر البلاد إليها.
ورسالة إلى العالم أيضاً السودان الذي عُرف… لن يكون هو السودان الذي سيأتي.. ولعل الرسالة الثانية هذه – أبعد مدي ً– وهي رسالة موجهة إلى المجتمع الدولي. فحين يختار السودان علمًا جديدًا، فهو يعلن للعالم أن الخارطة السياسية ة ستُعاد صياغتها، وأن على كل من يريد التعاون معنا أن يُدخل في حساباته سُودانًا جديدًا لا يشبه ما عرفه سابقًا.
وسودان ما بعد الحرب لن يكون امتدادًا تقليديًا لسودان ما قبل أبريل، ولا نسخة مكررة لمرحلة مضت. بل هو سودان جديد ترسمه التحديات المحلية والإقليمية والدولية، سودان يعيد تعريف نفسه ويعيد ترتيب موقعه على خريطة العالم. وكأن الخرائط السياسية والجغرافية موعودة بظهور سودان مختلف، سيخرج من قلب الحرب وهو أكثر صلابة ووضوحًا.
ولم يأتِ تصريح البرهان في زمن هدوء، بل في قلب الحرب وأوراها. وهذه الدقة تعني أن الحديث عن العَلم ليس تخطيطاً إدارياً فرضته اللحظة وظينتهي بل هو جزء من المعركة الرمزية لحماية الهوية الوطنية واستعادة تعريف الدولة بعيدًا عن التشويش الذي تُنتجه الحرب.
إذن ليس التغيير مجرد رفع علم جديد فوق المؤسسات، بل هو إعلان انطلاقة نحو مرحلة تتطلب صفاءً في الهوية ووضوحًا في الاتجاه. وإذا كان علم 1956 قد رُفع أول مرة يوم وُلد السودان المستقل، فإن رفعه من جديد اليوم قد يكون إعلان ميلاد جمهورية سودانية جديدة، تتشكّل ملامحها من تحت ركام الحرب، وتُبنى بإرادة شعب يريد أن يستعيد وطنه، ويرفع علمه، ويَكتب مستقبله بيده.



