مقالات الرأي
أخر الأخبار

أحياء الخرطوم تحكي: قصص البقاء والصمود وخدمة الآخرين في زمن الحرب (3–3) تقرير: عاكفة الشيخ بشير

أحياء الخرطوم تحكي: قصص البقاء والصمود وخدمة الآخرين في زمن الحرب (3–3)
تقرير: عاكفة الشيخ بشير
ا

مع اندلاع الحرب بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل 2023م، وتعرّض المدنيين للاستهداف المباشر، شهدت العاصمة موجات نزوح غير مسبوقة من المناطق التي دخلتها المليشيا، بينما فضّل بعض المواطنين البقاء في منازلهم لأسباب متعددة. كما عاد عدد كبير من السكان لاحقاً إلى مناطق تمكن الجيش من استعادتها .

في الجزء الأول من السلسلة، تناولنا حديث المواطنة (أ ج م ن) من الخرطوم جنوب حول أوضاع منطقتها قبل الحرب وبعدها، وتجربتها عقب عودتها للخرطوم. كما استعرضنا تجربة خالد عادل حامد حول مبادرات شباب العمارات في العمل العام أثناء الحرب وبعد خروجهم من الحي وعودتهم إليه، ودورهم في خدمة المجتمع داخل وخارج الخرطوم .

أما الجزء الثاني، فتناول صوراً من التجارب الشخصية ومظاهر الحياة في المناطق التي أعاد الجيش السيطرة عليها بالخرطوم ، إضافةً إلى ملاحظات عامة لخالد عادل حول واقع الخدمات والحياة العامة فيها حاليا . كما تضمن إفادات المواطنة انتصار ميرغني عن منطقتها قبل الحرب وبعدها، وتجربتها عقب العودة .

وفي هذا الجزء الثالث، نستعرض إفادات الكاتب الصحفي ومقرر مبادرة «راجعين» من سكان العرضة، حول أوجه الحياة في الحي قبل الحرب وأثناءها وبعد دخول الجيش، والصعاب التي واجهها سكان المنطقة تحت سيطرة المليشيا، إضافة إلى تجربته الإنسانية خلال تلك الفترة ودوره في مبادرة «راجعين» بعد تحرير المنطقة. كما نستعرض إفادات المواطنة (ع ـ ع) حول تجربة أسرتها في النزوح والعودة للخرطوم .

أحمد محمد دراج – إعلامي وكاتب صحفي وسكرتير ومقرر مبادرة راجعين :

يقول أحمد ـ وهو من سكان العرضة الذين لم يغادروا منازلهم طوال فترة الحرب إن أم درمان، المدينة التي تعني له الحياة بكل تفاصيلها، تحولت مع نشوب الحرب إلى ساحة ألم واختبارات قاسية للصبر والإنسانية .

كان أحمد يعمل قبل الحرب في هيئة الطيران المدني بمطار الخرطوم، إلى جانب نشاطه الواسع في العمل الإنساني عبر عدد من المنظمات الخيرية، من بينها منظمة أبو الجاز الخيرية ومنظمة مساعدون الخيرية ومنظمة سناء الخير. ويقول إن خبراته السابقة في مجالات العمل الإنساني وحقوق الإنسان كانت خير معين له خلال فترة الحرب .

ومع اندلاع القتال، توقفت أعماله بالمطار، وأصبحت الأسرة تعتمد على المدخرات وبعض مساعدات الأقارب. وبحكم إقامته الطويلة في العرضة، وجد نفسه وأسَر الحي يعيشون حياة يومية قاسية بعد سيطرة المليشيات على المنطقة، فقد انعدمت الخدمات الأساسية وازدادت المخاطر الأمنية، وتراجعت سبل الحصول على الماء والغذاء والدواء والمال .

اضطرت الأسر للاعتماد على العلاج البلدي بعد إغلاق المستشفيات أو تعذذر الوصول إليها، وانقطعت الكهرباء، وكانت عملية الحصول على الأموال عبر تطبيق «بنكك» شديدة الخطورة، إذ تتطلب التنسيق الدقيق والتنقل وسط المداهمات .

أما الحصول على المياه، فكان هو المعاناة الكبرى؛ إذ كان السكان يقفون في صفوف طويلة حاملين البراميل والباقات عبر الدرداقات، أو ينتظرون عربات الكارو بأسعار باهظة، ويقضون ساعات في البحث عن آبار داخل الأحياء.

ويصف أحمد المضايقات اليومية من عناصر المليشيا، والتفتيش المستمر، واقتحام المنازل بغرض النهب. كما يروي حادثة اعتقاله داخل منزله بعد اتهامه بالعمل مع استخبارات الجيش، حيث تم تقييده بالحبال وتغطية عينيه، ونهب ممتلكات منزله بالكامل .

كما يروي حادثة أخرى اعتُقل فيها مع أفراد من أسرته بسبب صورة لأحد الأقارب بالزي العسكري، قبل أن تنقذهم العناية الإلهية من قذيفة طائرة مسيرة سقطت بالقرب منهم .
ويصف موقفاً آخر حين أوقفته المليشيا أثناء سرقة منزل جارهم، وكادوا يطلقون النار عليه لولا تدخل والده وأخيه. ويشير إلى أنه يعلم من وشوا به من المتعاونين قائلا : ( أحدهما توفي لاحقا في الجنوب والآخر لقي حتفه برصاص المليشيا التي قدم لها خدماته وهكذا هي لا أمان لها تستخدمك اليوم وتقتلك غدا ).

ورغم هذه الظروف القاسية، استمر أحمد في خدمة الجيران وتأمين احتياجاتهم وتشغيل المولد لضخ المياه، والبحث عن الأدوية للمصابين وأصحاب الأمراض المزمنة، مؤكداً أن العمل الإنساني كان المتنفس الوحيد وسط الفوضى .

ومع دخول الجيش للمنطقة، بدأ أحمد مرحلة جديدة عبر مبادرة «راجعين» التي هدفت لإعادة الخدمات وتنظيم التكايا وتأمين احتياجات السكان، بالتنسيق مع مجموعات منظمة من أحياء العرضة وتعويضات بيت المال .
عاد أحمد لاحقاً لعمله الصحفي بصحيفة «الزعيم الرياضية»، وتلقى بعدها عضوية احترافية في اتحاد الإعلاميين الأفارقة، التي يعتبرها محطة مهمة ففي مسيرته المهنية. كما استعاد نشاطه الرياضي في نادي المريخ، الذي ظل جزءاً مهماً من حياته العملية والجماهيرية والإعلامية .
ويختم أحمد بالقول :
( تجربتي في أم درمان كانت فصلاً مؤلماً، فقدت فيه الكثير من الممتلكات والأمان والاشخاص لكنها علمتني أن الخير لا يموت، وأن الإنسان قادر على صناعة المعنى حتى في قلب الفوضى. ما دمنا نملك إرادة الحياة وحب الناس والإيمان بالله، سننهض مهما اشتدت علينا الحرب ) .
(ع ـ ع) من جنوب الخرطوم :

تقول (ع ـ ع) إن الأوضاع قبل الحرب في رأيها لم تكن تنذر بأي احتمال لاندلاعها، فقد كانت الحياة تسير بصورة طبيعية حتى اليوم السابق لبدء القتال. ومع دخول المليشيا لمنطقتهم، واجهت الأسرة مخاطر أمنية متصاعدة، خاصة مع سقوط الدانات وأصوات الأسلحة الخفيفة والثقيلة وتحليق المسيرات .
بعد شهرين من الترقب داخل المنزل، ومع تدهور الوضع الأمني والاقتصادي، قررت الأسرة النزوح إلى منطقة البجراوية بولاية نهر النيل، وهي موطنهم الأصلي. ورغم الأمن هناك، إلا أن الضغوط الاقتصادية كانت كبيرة بسبب ارتفاع الأسعار وكثافة حركة النزوح، إضافةً إلى صعوبة التحويلات المالية وضعف الشبكات، ووجود نمط حياة مختلف تماماً عن حياتهم في الخرطوم .
وتضيف إن تجربة النزوح ـ التي استمرت عامين وشهرين ـ كانت الأصعب في حياتهم، خاصة أنهم اعتادوا الاستقرار في منازلهم ولم يفارقوها من قبل وأن إيجابيات النزوح كانت قليلة مقارنة بسلبياته، وأن العمل «أون لاين» كان متعسراً في البداية بسبب ضعف الشبكات .
ومع التفكير في العودة، واجهتهم شائعات كثيرة حول انفراط الأمن وانتشار الأوبئة والحيوانات المفترسة، ما دفع الكثير من الأسر للتراجع عن قرار العودة. لكنهم قرروا خوض المغامرة، ووصلوا إلى الخرطوم في 11 يوليو 2025 ليجدوا واقعاً مختلفاً تماماً عما كان يشاع: أمن مستقر، خدمات صحية وتعليمية عاملة، مواصلات متوفرة، ومحال تجارية مفتوحة، إضافة إلى عودة تدريجية للكهرباء .
وتقول إن صدمة العودة كانت في اكتشاف سرقة أثاث المنزل بالكامل، والأسوأ أن بعض السرقات نفذها جيران، وهو أمر محزن لأن الجيران في السودان «أهل». كما وجدوا أن المنازل تحتاج إلى صيانة كاملة، وهو ما يشكل العبء الأكبر على الأسر العائدة .
وتختم بالقول إن استقرار الجانب النفسي بعد العودة هو العامل الأهم، ومعه يمكن للأسر التغلب على كل الصعوبات .

وختاما تشير /سونا/ إلى ان قصص سكان الخرطوم، هكذا تظل من العرضة إلى جنوب المدينة، شاهدًا حيًّا على صلابة الإنسان السوداني في وجه الحرب، وقدرته الفريدة على تحويل الألم إلى فعل، والخسارة إلى معنى، والخوف إلى قوة دافعة نحو الحياة :
إنها شهادات ليست للتاريخ فحسب، بل رسالة للغد :
أن المدن يمكن أن تُحاصَر، والمنازل قد تُنهب، والطرق قد تخلو من المارة، لكن روح الناس لا تُهزم فما بين صبر الأمهات، وصمود الشباب، وتكاتف الجيران، وعودة الأسر من دروب النزوح، تتشكل اليوم ملامح الخرطوم الجديدة ..خرطوم تُبنى بالإرادة، وتتعافى بالعطاء، وتنهض بأبطالها المجهولين الذين حملوا في عز المحنة شعلة الإنسانية ورغم جراح الحرب، يبقى يقين السودانيين واحدًا :
أن ما تهدمه الحرب تعيده سواعد الناس… وأن فجر السلام يبدأ دائمًا من قلب البيوت التي أصرّت أن تعود وتتنفس الحياة من جديد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى