اتصالٌ يهزّ المشهد: بين سلطة القرار وغياب التناغم.. بقلم د.

*اتصالٌ يهزّ المشهد: بين سلطة القرار وغياب التناغم.. بقلم د. إسماعيل الحكيم.* *Elhakeem.1973@gmail.com*
إنّ إتصال رئيس مجلس الوزراء د. كامل إدريس بالصحفية لينا يعقوب – مديرة مكتب قناتي العربية والحدث في السودان – ما كان خطوة بروتوكولية مفاجأة ، بل كان شرارةً أعادت تشكيل الجدل في الساحة الإعلامية والسياسية، وأخرجت إلى العلن ما ظلّ يُهمس به في أروقة الدولة ألا وهو غياب التناغم داخل الجهاز التنفيذي، وتضارب مراكز القرار بين مجلس الوزراء وبعض وزاراته.
فالصحفية التي أوقفها وزير الإعلام في سبتمبر الماضي بقرار إداري أثار وقتها جدلاً واسعاً، تعود اليوم إلى الواجهة عبر بوابة أكبر و اتصال مباشر من رئيس مجلس الوزراء نفسه يؤكد فيه – على نحو غير قابل للتأويل – أنها “حُرّة في ممارسة نشاطها الإعلامي”.
فقد فجّرت هذه الخطوة الأسئلة قبل المواقف، وانقسم الوسط الإعلامي بين من يرى أنها تصحيحٌ لقيودٍ غير مبررة، وبين من يعتبرها تجاوزاً صريحاً لمسارات المؤسسية وتدخلاً في صميم اختصاص الوزارة.
لكن ما الذي يجعل هذه الواقعة مختلفة؟
الجواب يكمن في تتابع الأحداث وتسارع القرارات غير المنسّقة داخل الجهاز التنفيذي.
إذ لم تهدأ بعدُ عاصفة إعفاء الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة، حتى قفزت قضية لينا يعقوب إلى سطح الأحداث. وقبل أيام فقط، أصدر رئيس الوزراء قراراً آخر بتعيين صحفي جديد مستشاراً إعلامياً، رغم وجود مستشار سبق تعيينه.
هنا بدأ المشهد يبدو وكأن الدولة تعمل بأكثر من “قبضة” وأكثر من “لسان”.
وفي بلد يكاد يخرج من حربٍ مدمّرة، كان المواطن يتوقع انسجاماً أكبر داخل السلطة التنفيذية، لا هذا التوالد المتسارع للقرارات الذي يكشف – بلا رتوش – تبايناتٍ تجعل الوزارات تبدو أحياناً خارج دائرة الفعل، أو على الأقل خارج دائرة المعرفة المسبقة.
السؤال الذي تقوده الوقائع ولا يمكن تجاهله، هل فقدت وزارة الإعلام سلطتها حتى في أدنى اختصاصاتها؟
فالوزير، الذي سارع إلى نشر توضيح على صفحته يؤكد فيه التزام وزارته بـ القوانين واللوائح والمسارات المؤسسية، بدا في موقع من يذكّر – أو يعترض – على قرار أعلى منه، من دون أن يسمّيه.
وهنا يتقاطع السؤال المهني مع السؤال السياسي، إذا كانت الوزارة تؤكد المؤسسية، فهل يعني ذلك أن قرار رئيس الوزراء بإعادة لينا يعقوب لممارسة نشاطها غير مؤسس؟
أم أن غياب التنسيق جعل كل طرف يتصرف وكأن الآخر غير موجود؟
فقراءة حدث كهذا بعيداً عن الانفعال أظنها تقود إلى ثلاث فرضيات رئيسة ؛
1. صراع صلاحيات داخل الجهاز التنفيذي لأن القرارات المتضاربة توحي بأن المؤسسات تعمل بلا منصة تنسيقية واضحة، وأن بعض الملفات – خاصة الإعلام – أصبحت مجالاً لتنازع النفوذ.
2. رغبة رئيس الوزراء في إرسال رسالة سياسية
فإن اتصال د. كامل إدريس شخصياً بلينا يعقوب قد يكون محاولة لإظهار نهجٍ أكثر انفتاحاً على الإعلام الدولي، أو رسالة بأن الحكومة لا تريد الدخول في صدامات مع المؤسسات الإعلامية المؤثرة خلال فترة حساسة.
3. ضعف هندسة الدولة بعد الحرب.. فالتسلسل الإداري الذي يُفترض أن يمر عبر وزارات الاختصاص يبدو هشّاً، ما يفتح الباب أمام قرارات تتقاطع وتتصادم، بدل أن تتكامل.
إنّ ما جرى لا يتعلق بصحفية واحدة، ولا بقرار إداري معزول، بل هو مرآة تعكس حجم التحدي الذي تواجهه الحكومة في بناء جهاز تنفيذي منضبط، موحد الرؤية، متماسك الأدوار.
ففي ظل هذه التباينات، يصبح السؤال الأعمق،
كيف يمكن للدولة أن تدير معركة إعادة البناء بعد الحرب، وهي تواجه اختلالاً في أبسط عمليات التنسيق بين رئاسة الوزراء ووزاراتها؟
وما لم تعالج هذه الفجوات، سيظل كل قرار – مهما صغر حجمه – يشعل ويشغل جدلاً جديداً، ويغذي شعوراً عاماً بأن الدولة تُدار بخيوط منفصلة، لا بمؤسسة واحدة.
إن قضية لينا يعقوب لم تعد حدثاً إعلامياً فريداً ، إنها نقطة على حروف أزمةٍ أوسع… أزمة تتعلق بمن يقود القرار، وبمن يملك حق تنفيذه، وبكيفية بناء دولة جديدة من أنقاض الحرب دون ازدواجية في المهام أو تضارب في الرؤى.
ويبقى السؤال مفتوحاً، ينتظر من يجيب عليه داخل أروقة السلطة:
من يقرر؟ ومن يراجع؟ ومن ينسّق؟
وهل يمكن لبلدٍ يحاول أن ينهض من تحت الخراب والدمار والأنقاض أن يتحمل رفاهية “التشويش الإداري” أكثر مما تحمّل؟



