السعودية والسودان: هندسة سياسية هادئة.. بقلم د. إسماعيل الحكيم*

*السعودية والسودان: هندسة سياسية هادئة.. بقلم د. إسماعيل الحكيم* *Elhakeem.1973@gmail.com*
إنّ الحراك السعودي الدبلوماسي الأخير حول السودان لم يكن حدثًا معزولًا، ولا تتابعًا بريئًا للمصادفات. فمنذ أن وضع ولي العهد السعودي ملف السودان على طاولة النقاش في واشنطن، خلال زيارته ولقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدأ واضحًا أن الأزمة السودانية قد خرجت من هامش المتابعة إلى قلب الاهتمام الدولي.
تلك الزيارة ما كانت بروتوكولية تخص السعودية ، بل مثلت – في جوهرها – إعادة تعريف للأزمة السودانية باعتبارها ملفًا يمس الأمن الإقليمي، واستقرار البحر الأحمر، وتوازنات النفوذ في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم. وما هي إلا أيام حتى بدأت واشنطن تحرك أدواتها السياسية، لتلحق بها لندن بخطوة أكثر حدة، عبر فرض عقوبات مباشرة على قادة مليشيا الدعم السريع، في إشارة لا تخطئها العين إلى تغير المزاج الغربي تجاه المشكل السوداني وتداعيات حرب الكرامة..
في المقابل، كان الشارع السوداني يرسل رسالته بوضوح، حين اصطف مع جيشه في مشاهد غير مسبوقة، لم تقتصر على الداخل، بل امتدت إلى عواصم القرار حول العالم. رسالة مفادها أن معادلة السودان لا يمكن اختزالها في مليشيا أو فرضها عبر وكلاء، بل تمر حتمًا عبر المؤسسة العسكرية بوصفها التعبير السيادي للدولة.
وسط هذا المشهد المتسارع، جاءت زيارة نائب وزير الخارجية السعودي إلى بورتسودان العاجلة ، ولقاؤه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لتؤكد أن الرياض لا تكتفي بالمراقبة من بعيد، بل تتحرك على الأرض، وبأدوات الدولة، وبمنطق احترام السيادة. ثم أعقبتها زيارة البرهان إلى الرياض، في توقيت بالغ الدلالة، ليكتمل بذلك خيط سياسي واضح المعالم.
هذا التسلسل لا يمكن قراءته إلا في إطار سعي سعودي جاد للإمساك بزمام المبادرة في ملف إيقاف الحرب في السودان. فالمملكة تدرك أن استقرار السودان ليس شأنًا إنسانيًا فحسب، بل ركيزة أساسية لأمن البحر الأحمر، وخطوط التجارة الدولية، ومشاريعها الاستراتيجية الممتدة من نيوم إلى القرن الإفريقي.
وفي هذا السياق، تبدو الرياض حريصة على تثبيت معادلة مختلفة تقول إن دعم الجيش السوداني، هو احترام القرار الوطني، والاعتراف الكامل بالسيادة السودانية، دون وصاية أو أجندات موازية. وهي معادلة، إن كُتب لها النجاح، تعني عمليًا إعادة رسم خرائط النفوذ في البحر الأحمر، وسحب البساط من أي أدوار حاولت القفز فوق الدولة السودانية أو الاستثمار في الفوضى.
إن السعودية، بخبرتها الطويلة في إدارة التوازنات، لا تبحث عن نفوذ صاخب، بل عن استقرار قابل للحياة. ومن هنا، فإن تحركاتها في الملف السوداني تبدو أقرب إلى هندسة سياسية هادئة، تراهن على الدولة لا المليشيا، وعلى الشرعية لا الفوضى، وعلى المستقبل لا لحظة المكاسب العابرة.
إن ما يجري اليوم ليس وساطة حافية الأقدام، بل إعادة تموضع إقليمي، تُعاد فيه كتابة دور السودان، لا كأزمة مزمنة، بل كرقم فاعل في معادلة البحر الأحمر. وفي قلب هذه المعادلة، تقف السعودية، لا كطرف في أوار الحرب ، بل كفاعل يسعى لإيقافها ولكن بشروط الدولة السودانية ، لا بمنطق المليشيا.



