مقالات الرأي
أخر الأخبار

عبد القادر سالم… حين يموت الفن في حصار الدلنج

عبد القادر سالم… حين يموت الفن في حصار الدلنج

لم يرحل عبد القادر سالم في زمنٍ عادي، بل غادر الحياة في أكثر الأزمنة قسوةً وظلمًا، زمنٍ قد لا يسعف فيه الموتُ أقربَ الناس إلى أن يودّعوا فقيدهم، ولا يسمح للأهل والأحباب أن يجتمعوا على عزاءٍ يليق بقامةٍ بحجم وطن.

وُلد عبد القادر سالم في مدينة الدلنج، المدينة التي تعيش اليوم حصارًا جائرًا، فرضته مليشيا الدعم السريع وحركة الحلو المتمردة، حصارًا لا يستهدف الأرض وحدها، بل الإنسان، والذاكرة، والمعنى. وكأن القدر أراد أن يُختَتم مشوار هذا الفنان الكبير بالمأساة نفسها التي ظل يغنّي ضدها: مأساة اقتلاع الإنسان من حقه في الحياة الكريمة، وحتى في حقه في الموت الآمن.

عبد القادر سالم لم يكن مجرد فنان. كان معلّمًا تخرّج في معهد المعلمين بالدّلنج، ومارس مهنة التدريس بإيمانٍ عميق بأن التعليم والفن وجهان لرسالة واحدة. ثم مضى أبعد من ذلك، فحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، ليؤكد أن الفن عنده لم يكن نزوة موهبة، بل مشروع معرفة وانحياز للوعي.

عرفه السودانيون واحدًا من أصدق حراس التراث، لا يسطو عليه ولا يزيّفه، بل يعيده إلى أهله كما هو: نقيًا، حزينًا، ومشحونًا بالحنين. كانت ألحانه ابنة بيئة كردفان؛ واسعة كسهولها، وصبورة كإنسانها، ومثقلة بالشوق كما تفعل المسافات حين تطول.

وخلال سنوات الحرب، لم يختبئ عبد القادر سالم خلف صمته، ولم يتوارَ خلف لقب الفنان الكبير. كانت مواقفه مشرفة وواضحة، منحازة للناس، للمواطنين ، للضحايا، ولحق السودانيين في الحياة والسلام. لم يغنِّ من برجٍ عاجي، بل من قلب الجرح.

اليوم، يرحل عبد القادر سالم، وربما لا يستطيع بعض أقرب الناس إليه حضور تشييعه، وربما يُغلق الطريق أمام عزاءٍ يليق به، لا لأنهم لا يريدون، بل لأن الحرب التي تشنها المليشيات على السودانيين جعلت حتى الوداع امتيازًا مستحيلًا.

أن يموت فنان بحجمه في هذا الظرف، فهذه ليست مصادفة. إنها إدانة صريحة لحربٍ لا تكتفي بقتل الأحياء، بل تواصل قسوتها حتى بعد الموت. حرب تُحوّل الجنازات إلى أمنيات، والعزاء إلى مخاطرة، والرحيل إلى فعلٍ معزول.

برحيل عبد القادر سالم، لا نفقد صوتًا جميلًا فحسب، بل نخسر شاهدًا على أن الفن يمكن أن يكون معرفة، وموقفًا، وضميرًا حيًا.
ونخسر، مرةً أخرى، فرصة وداعٍ يليق بنا وبمن نحب.

سلامٌ على روحه…
وسلامٌ على الدلنج، التي ما زالت تُنجب الجمال، وتُحاصر حتى الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى