ألدكتور أسامة الفاتح العمرى يكتب : زاوية تاريخية ومقاربة سياسية: إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان (19 ديسمبر 1955) بين فشل المرحلة الاستعمارية وخصومة القوى الوطنية”

ألدكتور أسامة الفاتح العمرى يكتب :
زاوية تاريخية ومقاربة سياسية: إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان (19 ديسمبر 1955) بين فشل المرحلة الاستعمارية وخصومة القوى الوطنية”
بقلم: د أسامة الفاتح العمري
لم يكن يوم استقلال السودان في مطلع عام 1956 يوما عاديا في ذاكرة السودانيين. خرج المستعمر، وارتفع العلم الوطني، وامتلأت الخطب بالكلمات الكبيرة عن الحرية والسيادة. لكن خلف هذه الرمزية المهيبة، كان المواطن السوداني البسيط يقف على الهامش، لا يعرف أن الاستقلال الذي احتفل به في القصور سيقوده سريعا إلى عقود من المعاناة، وكأن أدوات الاستعمار قد غادرت المكان، لكن روحه بقيت، هذه المرة بأيد سودانية.
الاستعمار يرحل والدولة لا تبنى
من الزاوية التاريخية، لم يكن الحكم الثنائي البريطاني المصري مشروعا لبناء دولة سودانية حديثة، بل كان إدارة استعمارية هدفها الضبط والسيطرة. لم يهتم الاستعمار بتأسيس عقد اجتماعي، ولا بإعداد مؤسسات تمثل الناس، ولا بتنمية متوازنة تحفظ كرامة المواطن في أطراف البلاد قبل مركزها.
ترك الاستعمار وراءه دولة مشروخة: شمال في مواجهة جنوب، مركز متخم بالسلطة في مقابل أطراف منسية، واقتصاد يخدم قلة ولا يرى الإنسان. وحين غادر، فعل ذلك على عجل، وكأن مهمته انتهت بإعلان الاستقلال، لا ببناء وطن قادر على الحياة.
لكن الأخطر أن هذا الفشل الاستعماري لم يواجه بمراجعة وطنية شجاعة، بل جرى استيعابه وإعادة إنتاجه.
نخب وطنية وصراع بلا بوصلة
سياسيا، دخلت القوى الوطنية مرحلة ما بعد الاستقلال وهي أكثر اهتماما بتقاسم السلطة من بناء الدولة. تحولت الأحزاب إلى امتدادات للطوائف، وتحولت الدولة إلى غنيمة، وغاب المواطن عن الحسابات الكبرى.
بدلا من أن يكون الاستقلال بداية لعقد أخلاقي جديد مع الشعب، أصبح ساحة صراع بين نخب تتخاصم على الحكم، وتتناسى أن الشعب الذي صفق لها في لحظة الاستقلال كان ينتظر مدرسة، ومستشفى، وطريقا، وعدالة.
لم يسأل المواطن ماذا يريد، ولم يشرك في صياغة مستقبل بلاده. وهكذا، ولدت الدولة الوطنية وهي تعاني من نفس علل الدولة الاستعمارية: مركزية مفرطة، إقصاء، وتهميش، لكن بلغة وطنية وشعارات محلية.
حكم بأدوات الاستعمار ولكن بأيد سودانية
ربما كانت المأساة الأكبر أن كثيرا من أنظمة الحكم التي تعاقبت بعد الاستقلال لم تكسر منطق الاستعمار، بل ورثته حرفيا. نفس أدوات القمع، نفس العقلية الأمنية، نفس الاستخفاف بالمواطن، وكأن المشكلة لم تكن في الاستعمار نفسه، بل فيمن يستخدم أدواته.
أدير السودان بعقلية الحاكم لا الخادم، وبمنطق السيطرة لا الشراكة. ومع كل انقلاب عسكري أو أزمة سياسية، كان المواطن يدفع الثمن: فقرا، وحروبا، ونزوحا، ودما بلا معنى.
وفي كل مرة، كانت النخب تتبدل، لكن المعاناة تبقى.
المواطن الغائب الدائم عن موائد السياسة
في القرى البعيدة، وفي أطراف المدن، لم يكن للاستقلال طعم. لم يشعر المواطن أن الدولة وجدت من أجله. ظل التعليم هشا، والصحة ترفا، والعيش الكريم حلما مؤجلا.
السؤال الأخلاقي هنا مؤلم: ما قيمة الاستقلال إذا لم يحفظ كرامة الإنسان؟ وما معنى السيادة إذا كان المواطن غريبا في وطنه؟
لقد تحول الاستقلال، في تجربة السودان، من وعد بالتحرر إلى مناسبة لكشف عمق القطيعة بين الدولة والمجتمع.
بين التاريخ والسياسة مأساة مستمرة
تاريخيا، فشل الاستعمار في بناء دولة. وسياسيا، فشلت النخب الوطنية في تصحيح هذا الفشل. وبين الاثنين، وضع المواطن السوداني في قلب أزمة لم يصنعها، لكنه عاش نتائجها يوما بعد يوم.
إن أزمة السودان ليست فقط أزمة حكم، بل أزمة ضمير سياسي وأخلاقي، أزمة دولة لم تتعلم أن الإنسان هو غايتها، لا وسيلتها.
⸻
الاستقلال لم يكتمل بعد
ربما يكون الدرس الأهم بعد أكثر من ستة عقود على الاستقلال، أن التحرر الحقيقي لا يقاس بخروج المستعمر، بل ببناء دولة عادلة ترى مواطنيها، وتحترم كرامتهم، وتخدمهم لا تحكمهم.
ما لم يتحول الاستقلال من ذكرى سياسية إلى مشروع إنساني، سيبقى السودان يدور في نفس الحلقة: استعمار يخرج، وسلطة وطنية ترث أدواته، ومواطن يدفع الثمن.
والسؤال الذي يظل مفتوحا: متى يصبح المواطن هو نقطة البداية والنهاية في تاريخ هذا الوطن ؟



