الأخبار
أخر الأخبار

⛔من لايعلم فاليعلم عن الشرطة…. جدلية ظهور الشرطة وغيابها

*⛔من لايعلم فاليعلم عن الشرطة*

بسم الله الرحمن الرحيم

جدلية ظهور الشرطة وغيابها!

تُعدّ الشرطة إحدى ركائز الدولة، فهي المسؤولة عن حفظ الأمن والنظام وصون الحقوق والحريات. ومع ذلك، لا تخلو المجتمعات من أصواتٍ تنتقدها أو تتهمها بالغياب حين تشتد الأزمات، كما حدث اليوم في ذكرى ثورة ديسمبر حين تصدت الشرطة للمظاهرات بالغاز المسيل للدموع، فاتهمها البعض بأنها غابت عندما هاجمت مليشيا الدعم السريع المدن، وعادت فقط لمواجهة المتظاهرين.

هذا الاتهام، وإن بدا للوهلة الأولى منطقيًا، إلا أنه يتجاهل طبيعة تكوين الشرطة ووظائفها ومحددات دورها القانوني. فالحكم العادل يقتضي النظر إلى الأمور في سياقها. فالشرطة، بطبيعتها وتدريبها، ليست جيشًا يقاتل في الحروب، بل جهازٌ نظامي مدنيٌّ يُعنى بتطبيق القانون وحماية المدنيين في الأحوال الطبيعية. وعندما باغتت المليشيا المدن بأسلحة ثقيلة، لم يكن من الممكن أن تقاتلها الشرطة بالسلاح الخفيف، فاضطرت إلى التراجع في بعض المناطق.

وكما يقول الكاتب الأمريكي دانييل كيز موران: «Police do not belong in war zones» — “الشرطة ليس لها مكان في مناطق الحرب” وهي عبارة تختصر الفرق بين الدورين العسكري والمدني، فالحروب تُدار بعقيدة الجيش لا بعقيدة إنفاذ القانون. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن الشرطة السودانية شاركت رغم محدودية إمكاناتها في القتال وقدمت أكثر من (600) شهيدٍ من أبنائها الذين واجهوا الموت بشجاعةٍ في ميادين الواجب.

يقول الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت: «لا يمكن لمؤسسة أن تؤدي عملاً خارج نطاق اختصاصها دون أن تفقد طبيعتها ووظيفتها». وهذا ما حدث بالفعل، فحين وُضعت الشرطة في ظرفٍ قتاليٍّ لا يشبه مهامها، كان من الطبيعي أن تواجه صعوباتٍ ميدانية.
أما اليوم، فقد عادت الشرطة إلى أداء مهامها الطبيعية في حفظ النظام أثناء التجمعات، مستخدمة الوسائل المشروعة التي حددها القانون، ومنها الغاز المسيل للدموع الذي يُستعمل لضبط الحشود لا لمعاقبتها. والمبدأ القانوني الواضح هو أن الشرطة لا تُواجه الرأي السياسي، بل تُنظِّم الممارسة الميدانية حفاظًا على الأرواح والممتلكات.

من يتهم الشرطة بالانتقائية في الظهور يتجاهل أن مؤسسات الدولة جميعها تضررت من الحرب، وأن كثيرًا من أقسام الشرطة ومعداتها دُمّرت أو نُهبت. ومع ذلك، واصلت الشرطة عملها بإمكانات محدودة، مؤمنةً بأن الحفاظ على الحد الأدنى من الأمن واجب وطني لا يحتمل التوقف.

وبالطبع، فإن الشرطة اليوم لم تبلغ حد الكمال، فهي —كغيرها من مؤسسات الدولة— تحتاج إلى تطويرٍ وتحسينٍ مؤسسي شامل، على المستويات الفكرية والهيكلية والفنية. فالتحديث والتدريب وإعادة بناء القدرات ضرورةٌ ملحّة لمواكبة المتغيرات الأمنية والمجتمعية المتسارعة، ولتعزيز الثقة بينها وبين المواطنين بما يرسّخ مبدأ الشراكة في تحقيق الأمن.

المنهج العلمي في التحليل الأمني يقتضي التمييز بين “وظيفة الشرطة” و”موقفنا العاطفي منها”. فالشرطة جهازٌ نظامي يؤدي واجباته وفق القوانين، وليس وفق الأهواء. ومهما اختلفنا حول بعض أساليبها، فإن وجودها أساسٌ لاستقرار المجتمع. وهنا نستحضر قولًا دقيقًا: «A society which chooses war against the police better learn to make peace with its criminals» — “إن المجتمع الذي يختار الحرب ضد الشرطة عليه أن يتعلم كيف يصنع السلام مع المجرمين” وهي عبارة تلخّص أن إضعاف الشرطة ليس نُبلًا ولا بطولة، بل تهديدٌ مباشر لأمن المجتمع بأسره.

الشرطة السودانية اليوم تعمل في بيئةٍ شديدة التعقيد، بين حربٍ مفتوحةٍ وتحدياتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ قاسية، ومع ذلك تظلّ حاضرةً في الشوارع، تنظّم السير، وتُؤمّن الأحياء السكنية، وتُكافح الجريمة، وتقدم خدمات السجل المدني و الجوازات وتقوم بأعمال الدفاع المدني… الخ لذا فإن اختزال أداء الشرطة في مشهدٍ واحدٍ أو موقفٍ عابر ظلمٌ لا يليق بمجتمعٍ ينشد العدالة والوعي المؤسسي.

ومن لا يُحب الشرطة لا يُطالَب بأن يُحبها، ولكن يُطالَب بأن يكون منصفًا في تقييمها. فالإنصاف لا يعني الرضا المطلق، بل الاعتراف بالحقائق كما هي. فالدول تُبنى حين تُنصف مؤسساتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى